بما أن وسائل إعلامه، وقنواته التلفزيونية بشكل خاص، تركّز على المسلسلات والأغاني وطبخة اليوم أكثر من الأخبار. طلب الحاكم العربي من مدير مخابراته إعداد تقرير خاص حول الأوضاع في غزة، ولمّا هاله ما جاء في التقرير حول الوضع الإنساني الكارثي والخطير، والمتّجه نحو الهاوية في مراكز الإيواء في ظل صعوبة تأمين الحد الأدنى من الغذاء والماء والدواء، فجأة، بعد منتصف الليل، طلب من جميع مستشاريه الحضور فوراً إلى غرفته، ولو بالـ«بيجامات». وبعد أن جلسوا أمامه بطفولة هادئة، قال لهم وهو يتثاءَب: أريد منكم، بعيداً عن الإنشاء العربي، ولغة البيانات، أن تخبروني ما الذي يجري في غزة بأدقّ التفاصيل، وخاصة ما يُحكى عن معاناة الناس داخل مراكز الإيواء.
(توفيق عبد العال)

وهنا وضع المستشارون جانباً ما بأيديهم من أوراق حول الانتخابات الأميركية والحرب الأوكرانية، وآخر الانتقالات في صفوف الأندية الأوروبية وأسعار النفط والغاز. وقال أحدهم آخذاً في الاعتبار مشاعر الحاكم وبشرته السياسية الحساسة: أهل غزة يا سيدي، يبحثون عن مأوى لأجسادهم وأحلامهم، بعيداً عن شظايا القصف ونباح الكلاب الضالّة وبيانات التأييد الفارغة وقرصات البرد الحارقة. وقال مستشار آخر بزفير يشبه آهات محمد عبده ومواويل عبادي الجوهر: إنهم يبحثون عن ربع رغيف خبز في اليوم. ثم تنحنح آخر مقاطعاً: لا تخلو الأخبار من جملة، ومعظمهم من النساء والأطفال، وصور لأجنّة يغتالها الجيش الإسرائيلي، من دون أن يحقق شيئاً من هدفه بالقضاء على المقاومة.
وبينما كان المستشارون يتابعون الكلام والسرد، ذبلت عينا الحاكم ونام، ثم علا صوت شخيره الهادف والعالي كصوت الطبل في حفلات محمد إسكندر. فحلم بأنه موجود داخل أحد مراكز الإيواء جنوب قطاع غزة، وبدا أثناء الحلم خائفاً من شدة القصف وعضّات البرد والخذلان، وشاهد بأمّ عينه وحشية الحرب والجوع. وبعد أن انتهى من طابور انتظار دخول الحمام، راح يسير في الطرقات، باحثاً كغيره من الناس عن الحاجات الأساسية اليومية، فوقف أولاً في طابور الحصول على الماء، وسمع شخصاً يقول: أنا هنا منذ 7 ساعات. وبعد أن حصل الحاكم على 10 ليترات من الماء، اصطفّ في طابور الحصول على كمية بسيطة من الملح والسكر والطحين وعلبة سردين كئيبة وشاي. ثم وقف في طابور شحن الهاتف الطويل نسبياً. ليتوجّه بعدها، بما يملك من مال لشراء بعض الحاجات ومنها الحطب الذي يتحكّم بأسعاره جشع أبي لهب، وهنا رآه أحد الغزيين يحمل أغراضه ويسير مرتجفاً من البرد، فأعطاه وهو يبتسم بطانية يلف بها جسده. وعندما عاد إلى مركز الإيواء وضع إبريقاً من الشاي على النار، وجلس محاطاً بالذباب الغبي وغيره من الحشرات البليدة، بلا إنترنت أو كهرباء، مع كثير من نزلات البرد والآلام المعوية والسعال.
عاش الحاكم العربي ليلة طويلة مليئة بالحزن والظلام، وأصوات الطائرات والقنابل ومدافع الدبابات وانهيار المباني. واستعاد في تلك الليلة ما رآه نهاراً من معاناة وصمود وإصرار على هزيمة الغزاة، واستعاد صور وجوه الأطفال التي تشبه صيف غزة وربيع الضفة الغربية، وأسماءهم النابعة من حكاية أرضهم، مثل جهاد ونصر وأمل وكفاح ونضال وتحرير وعودة وفداء. وفي لحظة مهمة في الحلم، كان فيها أحد الأطفال يقدّم له فيها سندويشة زيت وزعتر كي يسدّ جوعه، استيقظ الحاكم العربي مذعوراً في قصره، وتوجّه مسرعاً نحو المرآة، ولهول ما رآه حمل حجراً بيمناه وحطّمها.