هلّل معلّقون إسرائيليون، لنبأ اغتيال الأسير المحرر في صفقة «وفاء الأحرار» رمزي العك. لا يوجد ما يؤكد أو ينفي حتى الآن ذاك الخبر، لكن ما يلفت الانتباه ما قاله المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن الاحتلال «قتل 20 عنصراً شاركوا في الترويج لأعمال الفصائل من قطاع غزة تجاه إسرائيل». وتوجّه التركيز نحو العك، وهو من بيت لحم، مبعد إلى غزة بعد قضائه أكثر من 14 عاماً في زنازين الاحتلال. يعرفه الفلسطينيون بأناشيده الحماسية وصوته القوي، وكان أبرزها في ذكرى انطلاقة «حماس» الـ35، تحت عنوان «آتون بطوفان هادر». يقول النشيد: «آتونَ بطوفانٍ هادرْ/ آتونَ كإعصارٍ ثائرْ/ آتونَ زُحوفًا للمسرى/ وأسودًا في الحربِ كواسرْ». ويزيد ليذكر داعمي المقاومة والبلاد العربية والإسلامية ويصوّر كيف سينضم الجميع إلى الجمع الفلسطيني في معركة التحرير.

بكل تأكيد من شاهد مهرجان «حماس» في غزة في الذكرى ذاتها، واستمع لخطابَي محمد الضيف ويحيى السنوار، وأناشيد «الجوقة العسكرية» لكتائب «القسام»، لما تفاجأ مما حصل في 7 أكتوبر. إنه «طوفان الأقصى»، ولأجله كان ذاك المهرجان بتلك الهيبة، قبل 10 أشهر من الطوفان، تهيئة لأهل غزة بما سيحصل، وتهديداً واضحاً للاحتلال لما سيحصل. وهنا تبرز هشاشة دولة الاحتلال، على الرغم من كل وحدات تحليل البيانات والشكل والمضمون لأي شيء يحدث، إلا أنهم اكتشفوا متأخّرين أن ما صدح به رمزي العك، لم يكن كلاماً ولحناً للحماسة وضرورة تعبوية، إنما هو العقيدة القتالية والإفصاح بالمخطط والأهداف.
■ ■ ■

بعد تنفيذ الهجوم الكبير، بدأ الاعلام العسكري التابع لـ«القسام» والإعلام الحربي التابع لـ«سرايا القدس» بالعمل. هنا، يشعر المتابع أن الكتائب جهّزت معركتها الإعلامية والدعائية قبل المعركة، فخطاب أبي خالد الضيف بصياغته ورسائله لم يكن سريع التنفيذ، وكل حرف فيه مدروس. وبعده، فوراً بثّت قناة «القسام» في «تلغرام» نشيداً بعنوان «حدود النار». هذا النشيد هو في صلب «طوفان الأقصى»، فمقدّمته كلام الضيف، وكلماته بالفصحى تصف ماذا حصل في «غلاف غزة» وبفرقتها الاحتلالية؛ ولم يُعرف مؤلّفها لكنّ «الجوقة العسكرية» أدّتها باحتراف. يضاف إليها توليف صور إنجازات المقاومة مع توزيع الصوت، فتتمنى لو أنّك مع ذاك الفدائي حين نزع الجندي من دبابة الميركافا. ومع استمرار المعارك البرية، أصدرت «الجوقة العسكرية» نشيداً بعنوان «اقلب وجه الأرض»، يُصوّر بطولات المقاومين واستخدام السلاح الخاص بالكتائب ولا سيما قذيفة «ياسين 105».
تمكّنت المقاومة من «الفتك» بهم دعائياً وإعلامياً. صحيح أن أبا عبيدة وأبا حمزة خاضا موقعة الحرب النفسية والمعنوية، لكنّ الملصقات وفيديوهات المعارك كان لها الوقع الأكبر. وهنا تبرز الاحترافية: فيديو مكثف وقصير يمكن توزيعه بسهولة عبر وسائل التواصل، ولا يربك نشرات الأخبار والتغطيات المتواصلة. والأخطر كان المثلث الأحمر فوق الهدف قبل تدميره، وفي البُعد النفسي عند الاحتلال يرتبط المثلث بنجمة داود الزرقاء، هكذا فصل الفدائيون المثلثين بموت مُحتم. هذا نسج الوعي باللاوعي عند الجبهة الإسرائيلية، إنما عند الجبهة الفلسطينية فأصبح المثلث ثأراً قادماً.
■ ■ ■

أما الدعاية الإسرائيلية، فلم تكن ارتجالية إنما مدروسة تخدم الخطة العسكرية والموقف السياسي. بدأت بأكاذيب حول قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، ومقارنة المقاومة بتنظيم «داعش» وبالنازية الهتلرية. وذلك لتشكيل تحالف دولي ضد غزة وتبرير قتل الأبرياء، كما حصل في العراق وسوريا حين شكّلت الولايات المتحدة وحلفاؤها تحالفاً قتل من المدنيين أكثر مما قتل من أبناء التنظيم. واستخدمت الدعاية الإسرائيلية الكثير من مفردات الأساطير التاريخية لشحذ «اليهودية الكامنة» في النفوس، تبدأ بالمعاليق ولا تنتهي بقرابين النبي داود. وتابعت استخدام أسلوب القوة والحزم بأن الانتقام سيحقق إنهاء المقاومة تماماً وتحرير الأسرى، والأخطر هو بث الرعب بالصورة لكل غزة وأي جبهة يمكن أن تتدخّل. ليس صدفة أن تبث وسائل إعلام معاناة أهل شمال القطاع، ففيها تكمن رسائل تخويف وتأليب البيئة الحاضنة على المقاومة، ليخرج أحدهم ويقول: «ما يحصل في بيت لاهيا لا نريده أن يحصل في الضاحية الجنوبية لبيروت أو في رام الله». ومن ثم أتى الأمر لكل الصحافيين والمحاورين أن يسألوا سؤالاً رئيسياً: «هل تدين حماس؟». هنا هو يريد انتزاع موقف لا أكثر، وبعد ذلك قل ما شئت. للأسف، وقع في الفخّ كثيرون. بعدها بأيام ومع بروز صور الدمار والشهداء والجرحى واستغلال قضايا المستشفيات والمدارس ودور العبادة، يسأل المذيع: «هل كانت المقاومة تعرف أن هذا سيحصل في غزة قبل تنفيذها عملية 7 أكتوبر؟». يعني أن المقاومين يتحمّلون مسؤولية الدمار والإجرام وليس الاحتلال. ويتبعه سؤال: «هل من أجل 6 آلاف أسير فلسطيني نقتل 15 ألف فلسطيني وندمّر الأحياء ونُهجّر الناس؟». باختصار، يريدون من هكذا سؤال فصل غزة عن الضفة والقدس، باعتبار أن معظم الأسرى ليسوا من القطاع. لا بل هي حملة تحريض على الأسرى وقضيتهم واختصار المعركة بمسألة الأسرى. ولذلك تتطاير الأسئلة والتعليقات التحريضية في كل مكان: «أين أهل الضفة؟ أين أهل الداخل؟ أين محور المقاومة». هذه أسئلة لها إجابات ميدانية، لكن لا يريد طارحها رؤيتها، لأن الهدف هو أكبر من ذلك، وهو تشكيل رأي عام مضاد بتعمّد أو جهل. هذا كله يمشي وفق خطة، فوزارة الأمن الإسرائيلية تستعين بعلماء نفس واجتماع وخبراء بالإعلام، يجرون تجارب ويقدّمون توصيات لتطبيقها. ومن يدير الحرب النفسية والإعلامية هي وحدة «مالات» (مركز عمليات الوعي)، وتتبع لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، وغالبية نشاطاتها سرية، لكن ما يُعرف عنها وفقاً للإعلام الإسرائيلي أنها هي من تكتب المناشير وتطبعها قبل رميها على السكان قبل القنابل، وهي من تصوغ الخطاب الإعلامي للمتحدث باسم الجيش، وتتفرّع مهماتها إلى إنشاء مواقع إلكترونية وحسابات رقمية بلغات مختلفة وأسماء متنوّعة وتتقمّص هويات شخصيات لبث الدعاية المطلوبة. وتهدف الوحدة بحسب وثيقة عسكرية نشرت مقتطفاً منها صحيفة «معاريف» الإسرائيلية إلى «استغلال الاختلافات في المجتمع الفلسطيني من أجل تسريع وتيرة عمليات مرغوبة لإسرائيل». كما «تزرع» هذه الوحدة أخباراً في الصحف لتحقيق أهداف إسرائيلية، من بينها مضاعفة قدرتها على الردع. وإذا راقبنا بعض الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تستند إلى جيوش إلكترونية فسنجد أن الحسابات الوهمية أو التابعة لبعض «المؤثرين» و«الجوقات العربية» تعزف النغمة نفسها حسب الطلب. هي ذاتها من كانت تؤجّج الصراع المذهبي بين السنة والشيعة، حالياً تُحرّض على المقاومة والجدوى منها. ويعود إلى الوحدة استنباط أسماء الحروب والعمليات العسكرية، فاسم «السيوف الحديدية» يخرج منها. إضافة إلى المصطلحات المستخدمة لتعبّر عن بعض المفاهيم أو الأهداف مثل «كي الوعي»، أو «عقيدة الضاحية»، أو «جزّ العشب».
صحيح أن المقاومة لم تلجأ إلى المبالغات في معركتها الإعلامية، وبقي خطابها مقروناً بالمعلومات والأرقام، لكنّ بعض المسؤولين ولا سيما في حركة «حماس» يُفضَّل ألا يدلوا بأي تصريح؛ فأحدهم يرد على سؤال مذيع: «بنيتم الأنفاق للمقاتلين، فلماذا لم تبنوا ملاجئ للمدنيين؟»، بأن «الأنفاق في غزة بنيت لحماية المقاتلين وليس المدنيين (...) حماية المدنيين في غزة هي مسؤولية الأمم المتحدة.» تخيّل عزيزي المشاهد، لو أن هذا السياسي الفذّ تدرّب على «الظهور الإعلامي» لما كان وقع في هذا الفخ. كان بإمكانه الإجابة مثلاً: «المقاتلون يحمون غزة وأهلها، هم يفدون كل فلسطين بأرواحهم وليس سكان غزة فقط. لو كان باستطاعتنا لبنينا لأهلنا بروجاً مشيّدة ومحصّنة». ليعود المسؤول نفسه ويقول إن «ليس لدينا سجون، هؤلاء هم ضيوف في مساكن الفلسطينيين» وكأنه يعطي معلومات للعدو. ويتابع في مقابلة أخرى أن «قتل القسام لمدنيين في 7 أكتوبر خطأ»، بدل أن يكتفي بما قالته صحيفة «هآرتس»، وتدفع ثمنه حالياً إسرائيلياً، إن من قتل المدنيين هو الطائرات الإسرائيلية. هذا العبث مرده إلى أن معظم المسؤولين الفلسطينيين لا يمكنهم قول «لا أعرف» أو «لا تعليق»، وإذا ما وقعوا تحت ضغط الأسئلة عادوا إلى فطرتهم، وقالوا ما يخطر في بالهم من دون تفكير سريع ودقيق، لأنهم لم يتدرّبوا على الظهور الإعلامي وأدواته.


أعلن المتحدث بلسان جيش الاحتلال، اغتيال نحو 20 عنصراً شاركوا في الترويج لأعمال الفصائل من غزة تجاه إسرائيل. وبثّ الإعلام العبري ملصقاً فيه أربعة أشخاص:
عبدالله أبو سيف: من الخليل، اعتُقل عام 2003 وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة بسبب قتل إسرائيليين، وتم إطلاق سراحه كجزء من «وفاء الأحرار» وبدأ العمل في «مقر حماس في الضفة الغربية» بهدف توجيه أنشطة حماس في الميدان.
رمزي العك: من بيت لحم، اعتُقل عام 2003 بعد تنفيذه عملية في أيار 2002، وتم إطلاق سراحه كجزء من «وفاء الأحرار» ومنذ ذلك الحين شارك في توجيه نشطاء من دائرة الرقابة الداخلية لتنفيذ عمليات ضد الإسرائيليين.
محمود الحلبي: كان ناشطاً بارزاً في أحداث على السياج في قطاع غزة عام 2021.
محمد عوض الله: مسؤول مكتب رئيس مقر الإنتاج في حماس، ووالده ناشط مخضرم في حماس، ويشغل منصب سكرتير اللجنة التنفيذية لقيادة حماس.