يبدو أنّ اللحظة التاريخية التي تعيشها القضية الفلسطينية لم تسلم من الآراء المتنافرة التي يمكن توقّعها سلفاً وتصوّب الزناد إلى إنجازات المقاومة كما يصوّب العدوّ بنادقه إلى صدور مجاهديها. نعم، إنّها لحظة تاريخية استطاعت فيها المقاومة الفلسطينية تحويل كل الظروف والإمكانات والتراكمات إلى فعل نوعي تجسّد بهذه العملية التي لا سابق لها في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. سنبحث في هذه المقالة في الظروف والأسباب التي أدّت إلى نجاح العملية والتي يمكن الجزم بأنّها فاقت توقعات من خطّط وحضّر لها وعلى كل المستويات.
تراكم ظروف التوقيت
قام الكيان الصهيوني على الاستيطان الكولونيالي للأراضي الفلسطينية والتهجير والقتل وقمع من تبقّى من الفلسطينيين، في محاولة لعزلهم أو إذابتهم وفي كلتا الحالتين السيطرة الكاملة عليهم. منذ أكثر من 75 عاماً والشعب الفلسطيني يتعرّض للإبادة الممنهجة، والشواهد على ذلك لا ينفيها عدوّ ولا صديق، من إعلان تأسيس الحركة الصهيونية (1897)، مروراً بالنكبة الفلسطينية (1948) ثم بنكسة حزيران/ يوليو (1967) ومجازر أيلول/ سبتمبر الأسود (1972)، ثم اجتياح بيروت (1982) الذي توّجَهُ العدوّ الصهيوني بمجزرة صبرا وشاتيلا، إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) وانتشار مشاهد «تكسير عظام الفلسطينيين» في الحملة الوحشية التي أطلقها مجرم الحرب إسحاق رابين، وتلتها الانتفاضة الثانية (2000) والتي انطلقت حجارتها على إثر اقتحام أريئل شارون باحات المسجد الأقصى المبارك، وصولاً إلى كل الحروب الوحشية التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، فضلاً عن عزله وحصاره بشكل كامل ومن كل الاتجاهات، في سجن مفتوح هو الأكبر في العالم.


قبض الشعب الفلسطيني على الجمر والزناد، ومارس حقّه المشروع في المقاومة بأشكالها كافة، لإفشال المشروع الصهيوني الإمبريالي ومواجهته، فتكوّنت هويّته المعاصرة والتي نمت وتبلورت عبر الأجيال.
بعد تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه التاريخية وتحويله إلى لاجئين في مخيّمات البؤس والقهر، التي أُقيمت في البلدان العربية المجاورة، استأنف الفلسطينيون نضالهم عبر التسلّل إلى الأراضي المحتلة وتنفيذ العمليات الفدائية التي تصاعدت وتيرتها منذ النكبة، وصولاً إلى تأسيس التنظيمات الفلسطينية الفدائية التي تبنّت شعار تحرير فلسطين وعودة اللاجئين إلى ديارهم.
انطلقت الثورة الفلسطينية الحديثة وبدأ العمل المنظّم في الأراضي الفلسطينية المحتلة كافة وفي مخيّمات الشتات. وبدأت العمليات تضرب هذا الكيان في كل مكان. وعادت القضية الفلسطينية عالمياً إلى الواجهة كقضية تحرر وطني، وخاصة بعدما أطلق الفدائيون شعار «وراء العدو في كل مكان» والذي كان أحد الأساليب الثورية التي أرعبت العدو الصهيوني والإمبريالية الداعمة له. صمد الفلسطينيون في كل مكان، وقاوموا بما أوتوا من قوة، وطوّروا تجربة عمليات التسلّل الفردية لتحويلها إلى ظاهرة جماعية ومنظّمة ضمن استراتيجية التحرير. كما تطوّرت قدراتهم على العمل المنظّم وتحشيد طاقات الشعب الفلسطيني باتجاه المقاومة والكفاح المستمر، حيث قدّم الشعب الفلسطيني نموذجاً متقدماً في التضحية والصمود والثبات.
توّج ذلك بالمقاومة الشرسة التي تعرّض لها جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال اجتياح لبنان، وأسطورة الصمود في بيروت مقابل القصف الوحشي والحصار لأكثر من ثلاثة أشهر.
لم يمضِ بضع سنوات على اجتياح بيروت، حتى اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة الحجارة التي استفادت من التجارب النضالية الماضية وراعت اختلاف الساحات، حيث إنّ المعركة هذه المرة داخل الأراضي المحتلة في الضفة وغزة، أنضجتها التجربة الطويلة للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وبعد فشل تجربة روابط القرى في فلسطين المحتلة، بعدما حاولت إحلال نموذج الفلسطيني الخاضع كبديل لنموذج الفلسطيني المتمرد أو الثائر.
ثم اشتعلت شرارة الانتفاضة الثانية بعد سبع سنوات على «خمد» الأولى، والتي جاءت رداً طبيعياً على «اتفاق أوسلو» المشؤوم، ورفضاً لكل التسويات المذلّة التي قدّمها الاحتلال مقابل الخنوع والتنازلات المستمرة من قِبل السلطة الفلسطينية.
أبدعت المقاومة الفلسطينية في العمليات المعقّدة في عمق كيان الاحتلال، وطوّرت أسلحتها ومتفجراتها محلياً، هذا بالإضافة إلى تشكيل جزر قتالية منفصلة داخل الضفة الغربية وغزة، لم يعد جيش الاحتلال يمتلك الجرأة على دخولها دون أن يُمنى بخسائر كبيرة.
بعد انسحاب جيش الاحتلال من غزة تحت ضربات المقاومة، عمد إلى فصلها عن الضفة وعن العالم - عبر حصار مشدّد من البر والبحر والجو - فلجأ الشعب الفلسطيني هناك إلى تطوير مقاومته، وإلى جعل القطاع حصناً منيعاً على الاقتحام أو إعادة السيطرة.
ومنذ انسحاب قوات الاحتلال، صمد القطاع في وجه أربع حروب وحشية شنّها العدو الصهيوني على شعب غزة، فيما استمرت المواجهات في الضفة الغربية والقدس المحتلة ضد جنود الاحتلال وقطعان مستوطنيه.

اللحظة التاريخية
أنتج هذا الظلم المتصاعد مقاومة فلسطينية شرسة راكمت خبراتها في القتال وطوّرت من أساليبه وأسلحتها، في سبيل تحرير كل فلسطين، فيما فشل العالم «المتحضّر» في تقديم تسوية أو حل عادل لإنهاء هذا الاستعمار المزمن، والذي يتميز بطبيعته التوسعية والإحلالية. وقد فشلت كل الاتفاقيات الاستسلامية التي فُرضت على الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها «أوسلو»، الذي حوّل الحلم الفلسطيني بالاستقلال والحرية والتحرر إلى مشروع حكم ذاتي أخذت فيه السلطة التي انبثقت عنه مهمة حماية الكيان الصهيوني والسماح له باستكمال مخططه بالضمّ والاستيطان والسيطرة على الضفة الغربية والقدس وعزل غزة عن العالم وحصارها.
لهذا وأكثر، شكّلت عملية السابع من تشرين الأول هزيمة للعدو الصهيوني على أكثر من صعيد وعلى كل المستويات، وقد يكون الجانب الأمني والاستخباري من أكثر الجوانب فيها تميّزاً، فلم تكن عملية الخداع الاستراتيجي التي مارستها المقاومة الفلسطينية على قيادة العدو، والتي وصلت بنتيجتها إلى قناعة مفادها أنّ المقاومة في غزة، وتحديداً حركة «حماس» - وهي التنظيم الأكبر في القطاع - لا تريد القتال، بل تسعى إلى الاستقرار كسلطة حاكمة في غزة وإلى محاولة رفع الحصار بشكل جزئي لتحسين الظروف المعيشية لسكان القطاع، وإحكام السيطرة عليهم. وبهذا تجاهل العدوّ كل الرسائل والإشارات التحذيرية التي وصلته عن إمكانية قيام المقاومة بعملية مفاجئة. وعلى العكس من ذلك، لجأ إلى سحب بعض قواته البرية من حدود غزة إلى الضفة الغربية المحتلة لقمع المقاومة المتنامية هناك. وعوّض عن ذلك باعتماده على السياج الذكي الذي بناه على حدود غزة، والمجهّز بأحدث التقنيات للمراقبة والإنذار والتجسس والتحصينات الفولاذية والخرسانية.
أمّا المفاجأة الكبرى فقد تمثّلت في مدى قوة جهاز المقاومة الأمني والجهد الاستخباري المذهل على الرغم من ضعف الإمكانات. فكمية المعلومات التي بحوزة المقاومة عن الجدار وتحصيناته وتقنياته والمعلومات التي جمعتها خلال سنوات عن المستوطنات والمواقع العسكرية والاستخبارية السرية في ما يُسمّى «غلاف غزة» تطرح تساؤلات عديدة عن مدى التطور اللافت الذي وصلت إليه أدوات المقاومة. كما شكّلت تجربة «مسيرات العودة» - والتي حاولت اقتحام السياج أكثر من مرة - فرصة للمقاومة والمقاومين لفهم طبيعة الجدار وتقنيات المراقبة ونقاط ضعفه وطرق اختراقه، هذا إضافة إلى أنّ مقاتلي «حماس» كسروا رهبة السياج وعبوره أكثر من مرة خلال هذه التجربة التي تطوّرت تدريجياً وتلقائياً، وقد سقط بسواعد المقاومين في أقل من ساعتين.
كانت عملية الخداع الاستراتيجية والسرية المطلقة التي أُحيطت بها عملية السابع من تشرين الأول مفاجئة للصديق قبل العدو، فقد تفوّقت على كل ما سبقها من ناحية التكتم الشديد لمنع تسرّب أيّ معلومة تتعلق بهذه العملية بشكل يدعو إلى الدهشة، فكيف يمكن لغزة المحاصرة والتي تخضع للرقابة الشديدة والاستهداف المستمر من قِبل جيش العملاء، ومحاولات الاختراق الأمني والتجسس المستمرة من قِبل أحد أكثر الجيوش تطوراً وتقدماً بهذه الأساليب والتقنيات أن تنطلق منها معركة لا سابقة لها؟ لقد لجأت المقاومة إلى الطرق البدائية من ناحية الاتصالات، فمنعت الهواتف الذكية في اجتماعاتها وتحركاتها، كما أنشأت شبكة اتصالات داخلية مستقلة، حاول العدو الإسرائيلي اختراقها أكثر من مرة عبر إرسال عدد من الوحدات الأمنية لمحاولة اختراق شبكة اتصالات المقاومة، وفشل بذلك.
تمّ حصر تفاصيل «طوفان الأقصى» بعدد محدود لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ممن انخرطوا بالتخطيط والتجهيز لهذه العملية، أما باقي الوحدات العسكرية والمقاتلين فقد كانوا يتدربون ضمن مجموعاتهم على أساليب قتال محددة من دون إطلاعهم على أيّ معلومة خاصة بالعملية.
لم يقتصر النجاح على عملية الخداع فقط، وكذلك على كشف حقيقة هذا الجيش الذي يسوّق لنفسه بأنّه من أكثر الجيوش تطوراً في المراقبة والتجسس، وفضح أجهزته الأمنية (الشاباك والموساد) والتي يسوّق لها بأنّها أكثر الأجهزة قوة وتطوراً، إضافة إلى الضعف الشديد في قدرة جيش الاحتلال على الردّ أو احتواء العملية، فأصيب بحالة من الإرباك والتخبط جعلته عاجزاً عن الرد لأكثر من 6 ساعات.

الجهوزية والإمكانات
الكثير من التخطيط والتجهيز والتدرب والتحكم احتاجتها جميعاً عملية «طوفان الأقصى»، وقد نفّذتها عدة مجموعات ومن عدة محاور، استخدمت فيها الضفادع البشرية والقوات الخاصة والأسراب الطائرة والطائرات المسيّرة ووحدة القناصات ووحدة التفجير لفتح الثغرات في الجدار والمواقع العسكرية، والاستخبارات والرصد ووحدات مضادات الآليات والمدرعات ووحدة الصواريخ. هذه الوحدات مجتمعة نفّذت عملية واحدة واسعة النطاق، وفي الوقت نفسه، ما أدى إلى انهيار الجدار والمواقع والمستوطنات في غلاف غزة، والقضاء على فرقة غزة المكلّفة بحماية الحدود بشكل كامل، فوقع جنودها بين قتيل وأسير وجريح.

الإعلام شريك رئيسي في «طوفان الأقصى»
حضّرت «حماس» لزوم ما يلزم لخوض حرب إعلامية واسعة والاستفادة من المواد التي تمّ إعدادها قبل بدء المعركة، والتجهيزات التي زُوّد بها المقاتلون والمراسلون الحربيون الذين رافقوهم في العملية. فقد تمّ تجهيز مقاتلي النخبة التي نفّذت عملية العبور بالكاميرات التي قامت بتصوير جميع تفاصيل العملية، وما جرى من اقتحامات واشتباكات إلخ. وخرج القائد العام لـ«كتائب القسام» محمد الضيف متحدثاً عن ممارسات الاحتلال الفاشية والعنصرية في فلسطين، معلناً عملية العبور التي أطلق عليها اسم «طوفان الأقصى» ومتوجّهاً بالحديث إلى المجاهدين للقتال حتى النهاية، وتفادي قتل المدنيين. ثم خاطب الضفة الغربية، داعياً إياها إلى التصعيد وإنهاء التنسيق الأمني وأجهزته، لينتقل مباشرة إلى مخاطبة الفلسطينيين في القدس، وشعبنا في فلسطين المحتلة، وإلى محور المقاومة، وصولاً إلى الشعوب العربية والإسلامية والعالم.
على الصعيد الآخر، تسرّبت الفيديوات التي قام المستوطنون بتصويرها والتي بثّت الذعر في أوساط الصهاينة وجيشهم، بينما أُصيب إعلامهم بالتخبط بفعل الصدمة وعدم القدرة على التواصل، وبهذا فشل العدو في المعركة الإعلامية منذ اللحظة الأولى.
كل هذا النجاح والنصر لا يعني شيئاً إن لم يحقّق الهدف المرجو منه، وهنا نتحدث عن الأهداف الاستراتيجية لهذه المعركة.

الأهداف الاستراتيجية
لا يزال من المبكر الحديث عن تحقيق الأهداف، والمعركة دائرة والحرب على غزة مستعرة، لكنّ أحد أهم الجوانب التي ضمّها بيان الإعلان عن المعركة، يتلخّص بأربعة أهداف رئيسية تتعلق بقضية القدس وإيقاف الممارسات الاستيطانية فيها وتحرير جميع الأسرى وإنهاء حصار غزة، إضافة إلى إنهاء الاحتلال في الضفة.
من المجحف القول إنّ هدف هذه العملية هو إنهاء الكيان الصهيوني أو تدميره بشكل كامل، لكنّ هزيمته نفسياً عن طريق كيّ الوعي هي أحد أهم نتائج هذه العملية، وقد تحقّق هذا الهدف منذ اليوم الأول بعد العبور، حيث سقطت أسطورة الجيش المتطور والذكي وصاحب اليد العليا في المعركة. كما انكسرت صورة المقاتل في جيش الاحتلال بعد قتل واعتقال المئات منهم منذ الساعات الأولى. وتحطمت أسطورة المواقع العسكرية الشديدة التحصين، فدخل الفلسطينيون إلى كل المستوطنات والمواقع العسكرية، وتمّ إنهاء فرقة غزة بشكل كامل. وقد شاهد العالم كيف فرّ سكان مستوطنات «الغلاف» مذعورين، وأغلب الظنّ أنّهم لن يعودوا إليها في الوقت القريب، كما اهتزت صورة الاحتلال وجيشه أمام الجمهور الصهيوني «هذه الحكومة تركتنا وحيدين وبلا حماية» كما قالوا.
أما بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، فهذا العبور كان حلماً تحقّق وأدركت جماهير شعبنا أنّ هذا الكيان فعلاً «أوهن من بيت العنكبوت»، وأنّ الخيار الوحيد لاستعادة فلسطين هو بالمقاومة، وبذلك سقط خيار المفاوضات والاستسلام وذهب معه «اتفاق أوسلو» ووهم حلّ الدولتين.
تنتصر الشعوب حين تدرك أنّ النصر ممكن، عندها فقط تصبح على استعداد لتقديم التضحيات للظفر بالانعتاق والحرية. لقد أدرك الشعب الفلسطيني بشكل حاسم أنّ التحرير ممكن، وأنّ هذا العدو المتغطرس قابل للهزيمة والاندحار.
إنّ الروح القتالية العالية جداً التي يتمتع بها الفدائيون وقيادات المقاومة، تساندها الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، وبالذات في غزة، والذي عبّر عن دعمه الكامل لهذه المعركة واستعداده لدفع كل الأثمان. وما يؤكد ذلك خروج أهالي الشهداء من تحت الركام، رافعين رايات النصر والدعم للمقاومة، في لحظة تاريخية فريدة وحّدت الفلسطينيين جميعاً في غزة والضفة وأراضي الـ 48 ومخيّمات اللجوء.
فلسطين هي البوصلة، وقد وحّدت هذه المعركة الشارع العربي من المحيط إلى الخليج بعد سنوات من الاقتتال والفتن. فعادت جماهير الأمة لتصطفَّ خلف راية المقاومة والدعوة إلى حرب التحرير الشاملة.
كما تتصاعد الحركات الشعبية المتضامنة مع حقّ الفلسطيني بالمقاومة والتحرير، وإدانة الجرائم الوحشية التي يرتكبها الاحتلال من خلال استهدافه المدنيين بشكل جماعي وقتلهم وتدمير منازلهم وقطع الغذاء والدواء والمياه والكهرباء والاتصالات عنهم، في محاولة لتحقيق نصر وهمي، أو إعادة توازن الرعب عبر هذه المذبحة المفتوحة. ومع تصاعد الإجرام والإرهاب والقتل والتدمير، تزداد مقاومة الشعب صموداً وصلابة ويقترب النصر.