لعل المراقب اليوم لحركة العلاقات بين الدول العربية والاحتلال، يشاهد ويسمع ويقرأ الكثير من المعلومات التي تتحدث عن التطبيع، ما يثير الفضول في كثير من الأحوال، ويدفع إلى البحث أكثر عن معنى التطبيع الذي يروّج له في هذه المرحلة.فما الذي نفهمه اليوم من الحديث عن التطبيع؟ ماذا يعني لنا هذا المصطلح، وما هي دلالاته ومضامينه الداخلية؟ هل يقودنا بصورة حتمية إلى المراد إيصاله مع هذا الكمّ الهائل من المعلومات التي تتحدث عن التطبيع القادم والزاحف علينا كأنه قدر لا يردّ، وهل حقيقة نضجت الظروف الموضوعية كي يتم هذا التطبيع، وبهذا الإخراج السيّئ؟
بعيداً عن المشاعر الآنية والفردية، وبقراءة عقلانية ومنطقية لمجريات هذا المسار وتداعياته، يمكننا اليوم أن نحكم على ما يجري في فضاء العلاقة بين النظم السياسية العربية ودولة الاحتلال، بأنه لا يتعدى حدود الهيمنة المطلقة لمصلحة دولة الاحتلال.
فالتطبيع الحقيقي بين الدول عادة، يقوم بالمبدأ على عودة العلاقات إلى طبيعتها كما كانت في سابق عهدها. وفي حالتنا العربية، لا يمكن الحديث عن هذا النوع من المسار، لأن شكل العلاقة التي قامت والتي في طريقها إلى أن تقوم، مبنية في جوهرها على أقصى درجات الهيمنة من قبل دولة الاحتلال على كل الفضاءات العربية. أما تزيين الحالة وربطها بمسمّيات أخرى، فهو على سبيل التخريجة غير المقنعة على الإطلاق.
والسؤال المهم الذي يطرح بجدية، يتعلق بالجدوى من إقامة علاقات مع دولة الاحتلال. هل فعلاً ستحصل الدول العربية التي طبّعت علناً على فوائد من هذه العلاقة التي كانت قديماً مستترة مع بعض الدول، وعاشت مراحل التأرجح، حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، بإعلان الاعتراف الواضح بدولة الاحتلال بلا قيد أو شرط.
هذا الإعلان التطبيعي المتواصل، يبدو أنه قام على شروط أخرى غير تلك المعلنة، قد أمليت على السواد الأعظم في النظام الرسمي العربي، فالأمر مرتبط كما يبدو بتجديد شرعيات تلك الأنظمة. فبعدما فقدت شرعياتها الداخلية بفعل أحداث متواترة خلال العقد الأخير، تبحث هذه الأنظمة عن ثبات في وجودها وشرعنته من الغرب، بمقايضة مفضوحة وواضحة للجميع، وهي الاعتراف بدولة الاحتلال، التي من الواضح أنها مع الغرب الاستعماري التقطوا اللحظة التاريخية وبنوا عليها.
وبمراقبة بسيطة لتصريحات المسؤولين في الكيان، غير القابلة للتأويل، يُرى بوضوح أن قادة الاحتلال يدركون هذه المعادلة جيداً، فهم يؤكدون دوماً أن هذا الاعتراف غير مشروط، وليس مرتبطاً بملف العلاقة مع الفلسطينيين، فليسوا مضطرّين إلى تقديم بعض التنازلات، فكل ما في الأمر تحسين شروط الحياة في «السجن الإسرائيلي»، إذاً هي «مقايضة» من طرف واحد، الاحتلال لا يقدم فيها أي شيء.
فمنذ مدريد وحتى هذا الوقت، لم يخرج الخطاب السياسي للاحتلال قيد أنملة عما قاله شمعون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» وعما قاله بنيامين نتنياهو في كتابه «مكان تحت الشمس» فالكتابان يلخصان بوضوح طبيعة العلاقة المطلوبة بين دولة الاحتلال والدول العربية، فوضعا الخطوط العامة، الأولى تظهر فيها دولة الاحتلال عملاق التكنولوجيا والتقدم في المقدمة، في مقابل مال نفطي عربي لا يجد طريقه إلى الإنتاج والسوق، مال بحاجة إلى العقل الإسرائيلي الذي يعرف كيف يوظفه ويرعاه، وعلاقة ممرها الإجباري تل أبيب وحيفا، إضافة إلى ذلك توظيف الأيديولوجيا الدينية التي دمرت الحواضر العربية في العقدين السابقين لمصلحة تجديد العلاقة مع «أبناء العم». بمعنى أوضح، محاولة إظهار الحب لـ«السلام» والعلاقة الطيبة مع المحيط العربي، هي الستار لعملية توسع ناعمة، تقوم على السيطرة من جانب الاحتلال، والإذعان من جانب العرب.
الغريب في أمر النظم الرسمية العربية التي مضت قاطرتها نحو التطبيع، وتلك التي في طريقها، أنها غالباً ما تبرر تطبيعها مع الاحتلال بأنه جزء مهم هدفه الأول خدمة القضية الفلسطينية، ولهذا قدمت كل هذه التنازلات وفق تبريراتها، علماً بأنه كلما زادت الدول المطبعة في عددها وكثافة تطبيعها، كلما زاد العنف الممنهج للاحتلال ضد الأرض والإنسان والمقدّسات الفلسطينية التي هي أيضاً مقدسات عربية ودينية إسلامية ومسيحية. وكلما مدّت يد المصافحة العربية للاحتلال، ظهر يمين صهيوني يلعن اليمين الذي سبقه ويتهمه بالتنازل، في مشهد هزلي، لا تستطيع فيه كل الدول المطبعة وكل أدواتها ونخبها أن تغطيه أو تحجب حقيقته عن الناس.
فالاحتلال واضح وصريح وغير ملزم بتغيير لونه وشكله وحرفه، يمضي نحو فريسته واحدة تلو الأخرى، يلتهمها بلا تردد. فهو يدرك «حاجة» تلك الدول إليه، ويدرك أيضاً أن سرّ بقائه حتى هذا الوقت هو وجود تلك الأنظمة، فلا بأس من إقامة تلك العلاقة معها وفق منطوقه، فالتطبيع أصبح حاجة للنظم الرسمية العربية، ولهذا يظهر هذا الزحف نحو تل أبيب بوتيرة متسارعة.
أما الفلسطيني في أسر الاحتلال فما زال يراهن على أهله العرب، ويراهن أيضاً على انكشاف الغول الصهيوني بشكله الحقيقي عند إخوته وذويه، وهو يدرك أن منطق الحركة الصهيونية تم تأسيسه على رفض الانصهار في كل المجتمعات، منطق قائم على الإغلاق، فكيف سيبني علاقة مع الآخر وهو الذي لا يراهم سوى أنهم «الأغيار» بكل ما تحمله الكلمة من معنى عنصري وغير إنساني.
هذا الرهان ليس رهاناً عاطفياً، بل رهان فيه من رجاحة العقل ما يكفي، فـ«واحة الديموقراطية» في الشرق الأوسط كما تحب دولة الاحتلال أن تسمّي نفسها، تذهب بعيداً في أزمتها السياسية، وتذهب بعيداً في أزماتها الثقافية والطائفية وانقساماتها المجتمعية، ولن ينجيها تفوّقها العسكري من تلك الأزمات ولا حتى حضورها الفعلي في العواصم العربية قادر على جلب الاستقرار لها حتى في المدى المنظور.
وهذا التقدير لا ينبع من الأمنيات والأوهام، بقدر ما هو اتّكاء على أصل الحكاية وأصحابها الذين واجهوا طوال قرن من الزمن كل أشكال الإبادة والنفي والنكران، وحافظوا على هويتهم الوطنية من خطر الاندثار، وتحمّلوا عبء الحركة الصهيونية وكيانها، منهم يؤخذ المعنى وإليهم يردّ، فالتطبيع المقبول عندهم هو أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل النكبة من دون نقصان، هذا هو الفهم الحقيقي للتطبيع بالنسبة إليهم، ودون ذلك أضغاث أحلام.