سجل الفنان الفلسطيني محمد بكري حكاية مخيم جنين بفيلم وثائقي حمل اسم «جنين جنين». لم ينتظر مرور وقت على الحدث، حمل كاميرته، وذهب إلى المخيم. الحكاية ساخنة، فكانت أصوات أهالي المخيم مليئة بالقدرة على الاستمرار والبقاء، لكن صوتاً واحداً لم نسمعه في الفيلم، ربما كان هو الأعلى.يبدأ الفيلم بشاب أبكم، وينتهي بسخرية حادة من العالم والعرب والأمم المتحدة، بسخرية من كل شيء، رجل يتكلم عبر «شحاطة» مع الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان، يختصر واقعاً بحديثه وسخريته، وضحكات الحضور في السوق. مثل هذا الرجل، الشاب الأبكم الذي شرح عن المعركة، كأن به كل من تفرج ويتفرج حتى اليوم على ما يحصل في فلسطين، ويظل «أبكم»، فقط يشير. إلا أن ابن المخيم في «جنين جنين» لم يهرب من المخيم، ظل فيه، شاهد ووصف في الفيلم، تكلم بلغته، فعاتب العالم، وقال له أنت كاذب.
«هدوه صحيح هدوه، راح نرد نبنيه من جديد، ومش رح نهتم بيهم، وراح يبنى على أساس المقاومة، وراح شارون طول حياته يحسب حساب لمخيم جنين» هذا ما قالته طفلة في الفيلم، وهي تقف فوق ركام المخيم. هذه الفتاة التي ربما هي اليوم في الثلاثينيات من عمرها، كانت ترى وتعرف أكثر مما تعرف إسرائيل نفسها، كانت تعرف ما في المخيم من طاقة لا يمكن أن تفرغها الدبابات والطائرات الحربية. ولا يمكن لهذه الطاقة إلا أن تتحول «في نهاية الأمر، بدي أقول هالكلمة، احنا هون تا تقوم القيامة، هون تا تقوم القيامة» كما قال طبيب في المخيم عاش أجواء المعركة.

ذاك التحدي الذي سجله محمد بكري في فيلمه الذي أهداه إلى الشهيد إياد السمودي، منتج الفيلم، الذي قضى بعد تصوير الفيلم. نراه اليوم في المكان ذاته، مخيم جنين الذي لم يتوقف عن إنتاج البطولة والانتصار. لقد كان من حظ مخيم جنين، أن جاء إليه محمد بكري بكاميرا فلسطينية العين، منطلقة من تاريخ الأرض وسكان المخيم الذين لا تفصل بعضهم عن قراهم الأصلية سوى رمية حجر. هذا الحجر الذي كان منازل في المخيم، بات في أيدي الأطفال والمراهقين انطلاقة جديدة نحو مقاومة مستمرة نراها اليوم. ومن حظ المخيم اليوم أن جيشاً جديداً بدأنا نتلمس آثاره في توثيق الحكاية، جيش سلاحه كاميرات احترافية، تلتقط الحدث بتفاصيله الدقيقة، تلك الأعين فلسطينية، تلتزم مهنيتها الصحافية، تعرف القصة من أولها، لذا فالإصبع الذي يضغط على «زر» الكاميرا لإيقاف الزمن في لحظة ما، يوجهه عقل يعرف معنى الصورة ودقة مهمتها في خلق أسئلة لدى من لا يعرفون حكاية فلسطين، ولا يعرفون لماذا بعض الناس في مكان اسمه فلسطين يقاتلون «دولة إسرائيل». فثمة لقطة انتشرت بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي ونشرتها بعض الصحف، بعد انتهاء المعركة الأخيرة في مخيم جنين، عند بوابة المخيم، اللقطة تبدو كأن الحضور فيها في وضع مقدس، ينظرون نحو البوابة وجميعهم يرفعون شارة النصر، نرى ظهورهم، ونرى ما تنظر إليه عيونهم «العودة» الكلمة الموجودة عند بوابة المخيم، هي اختصار لحكاية هؤلاء. تلك اللقطة للمصور الفلسطيني وهاج بني مفلح، وهناك لقطات أخرى لمصورين بارعين، يصورون لوكالات عالمية، يساهمون من حيث الحقيقة مهمة، بنقل جانب رئيسي من المشهد، وهو حكاية الفلسطيني الذي يقاتل جيشاً يحتل أرضهم، منذ أجدادهم في العصابات الصهيونية حتى شبابهم وآبائهم في ما أمست إليه تلك العصابات، وصار اسمه «جيش الدفاع».

بالعودة إلى فيلم "جنين جنين" الذي دفع إسرائيل إلى منعه، وملاحقة مخرجه منذ أكثر من عشرين عاماً حتى اليوم، نحتاج إلى أن نتوقف أمام فكرة التقاط اللحظة لتوثيقها بإبداع، فإن هذا يساعد على حمل الصورة والفكرة إلى أماكن أخرى من العالم، لتنتقل الرواية إلى الوعي الإنساني الذي شوّهته الصهيونية في العالم، والذي عملت طويلاً على قلب حقيقته لمصلحتها غالباً، وقد زاد هذا السخف بلّة، بعدما توقفت مؤسساتنا الفلسطينية عن توثيق حالنا توثيقاً تسجيلياً يحفظ الحدث وشهادات الناس عليه، وانطباعات الآخرين عنه. وبالعودة أيضاً إلى سبعينيات القرن الماضي على سبيل المثال، سنجدنا أمام كم هائل من التوثيق لكل حدث فلسطيني أو عربي مرتبط بالصراع مع إسرائيل، فلم يكن الأمر مجرد توثيق، واهتمام بحفظ الذاكرة، بل كان مهماً لمركز الأبحاث مثلاً، الذي كان يدرس تلك الأمور التي تقولها الناس، فيفهم من خلالها الواقع أكثر، ويبني على أساس هذا الفهم رأياً وتوجهاً.
إن ما يحدث اليوم يجعل التوثيق مقتصراً على الصحافة التي تنقل الحدث، فتغفل تفاصيل وتبرز أخرى. ومع أنها تفيد في التوثيق، إلا أنها لا تسجل إلا القليل، وهذا القليل، على أهميته، إلا أنه لا يترك مجالاً للمتابعين إلا للبحث أكثر عن المعلومات، ولا يترك للأجيال القادمة ما يمكن الاستناد إليه. ولا يترك لنا أدوات المحاججة أمام العالم لوصف ما يحصل. إن ما فعله محمد بكري في فيلمه «جنين جنين» كبير جداً ومؤثر جداً، ولولا ذلك لما كانت إسرائيل النووية منزعجة منذ أكثر من عقدين من شريط لا تتجاوز مدته الساعة. نحتاج اليوم إلى مؤسسة فنية ثورية، تلتقط كل لحظة فلسطينية وعربية مرتبطة بالصراع المستمر مع إسرائيل، لتوثقها وتنتجها فنياً وإبداعياً، وتضعها أمام العالم ليخرس في دعمه لإسرائيل، ولتضعها الأجيال القادمة أمام البشرية، لترى كم أن إسرائيل عكس ما ادّعت في «تاريخها» أنها حمامة سلام، بل إنها مجرمة «تعدم الأنبيا» حسب ما قال طبيب المخيم في الفيلم، لقوات الاحتلال.