إنّ أبلغ ما يمكن أن يوصف به مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، هو «الدجاجة التي تبيض ذهباً للجميع»، ومن هنا يمكن أن ينطلق التفكير في أي حدث في هذا المخيم. فلا يمكن أن يحدث في المخيم حدث وليس هناك من يستفيد منه.هذا المخيم، الذي تعود الذاكرة معه إلى جلال كعوش، وإلى النساء اللواتي أعدن إعماره بعد اعتقال رجالهن، ليس سهلاً اليوم القبول بما آل إليه، أو يراد له أن يكون أداة لتنفيذ أجندات مختلفة حسب الجهات المشغّلة. والفكرة الأخيرة لا تعفي الموجودين في المخيم من الذنب الذي يقترفونه بحق الأهالي في المخيم.
في المخيم العدد الأكبر من الفلسطينيين، وقلة من المناضلين العرب الذين قاتلوا يوماً مع الثورة الفلسطينية، ولم يتركوا مواقعهم، ولم يتركوا أهلاً لهم، فعاشوا في المخيم. بينما هناك قوى أخرى فيها من الفلسطينيين والعرب ممن يستعملون الدين لتنفيذ برامجهم، والتي ليس من ضمنها تحرير فلسطين، بدليل أنهم لم يقاتلوا في فلسطين. لكن بعضهم حين تركوا تنظيماتهم الفلسطينية في ثمانينيات القرن الماضي، قاتلوا إسرائيل في مواجهات مختلفة. إلا أن قوى أخرى متشدّدة، انحرفت بوصلتها نحو الأجهزة والأجندات والاستخدام في كل مكان، لتحريك ملف هنا، أو إيصال رسالة إلى هناك.
وبينما تقاتلهم قوات «الأمن الوطني» أو «فتح»، تبقى جهات فلسطينية أخرى متفرّجة، تقدّم الإدانات وأحياناً المساندة المعنوية، وربما المادية، بينما لا تشترك في قتال من في قناعات بعضهم أننا جميعاً «كفار» وقتالنا وقتلنا «واجب شرعي».
ظهرت هذه القوى المتشدّدة في المخيم عبر السنين، ولم تتوقف عن التمدّد، وهنا يجب لوم القوة التي تسيطر تقريباً على كل المخيم، وهي «فتح»، عن أسباب سماحها لهذه الحالة بالتمدّد، وسؤالها عن أسباب سماحها بذلك، أو الإفصاح عن عدم قدرتها بوقف هذا التمدّد، وبالتالي طلب المساندة من باقي القوى الفلسطينية الحريصة على الحفاظ على المخيم ووجود الناس فيه. لكن في حالتنا، التي ليس فيها من سأل ولا من لام ولا من بحث ولا من استفهم، فقال على الملأ عن المصيبة التي تحيق بمخيمنا هذا ومخيماتنا عموماً، ولبنان بأسره، فلنتوقع أكثر وأكثر من الأحداث والقتل والدمار.
في المعركة الأخيرة التي حدثت في «عين الحلوة»، وفي معركة 2017، كانت المواجهة مع قوى يقال إنّ بعضها يناصر «داعش» أو «جبهة النصرة»، إن صح ذلك أو لم يصح، الأسئلة التي تبرز وتتعلق بوجود هذه الظاهرة، أساسية، وهو إلى متى ستبقى هذه القوى المتشدّدة موجودة في المخيم؟ ولماذا لا يؤخذ القرار بحسم وجودها؟ هل لأنها محمية؟ أم لأن «دم المسلم على المسلم حرام!»؟ من الممكن التفكير وفتح المجال للتفكير عميقاً في المفاهيم التي سمحت وتسمح بوجود هؤلاء في وسط من اللاجئين الفلسطينيين الذين ليس لديهم مأوى غير المخيم، على الأقل حتى تتحقق عودتهم إلى بلادهم.
ليس مهمّاً من يدير المخيمات، لكن المهم أن لا يبقى بيننا من يقتل أهله في لحظة حاسمة، ويأخذنا إلى تدمير مخيم آخر بعد مخيم نهر البارد


الأسئلة التي وردت في الفقرة الأخيرة، إجاباتها قد لا تكون واضحة ومباشرة، لكنها ممكنة وسهلة في آن، وقد أشير إليها في البداية، تلك المتعلقة بالأجندات والاستعمال من قبل الأجهزة المختلفة. أمّا بخصوص «فتح» التي عادة ما تجد نفسها في المواجهة وحيدة لتتحمل كل النتائج في ما بعد، فعليها على الأقل أن تضع الكل الفلسطيني أمام استحقاق الوجود الفلسطيني في اللجوء، وخطر مثل هذه الأحداث على هذا الوجود الضروري، طالما أن مدن وقرى هؤلاء اللاجئين لم تُحرّر. هذا على الرغم من أن هناك بعض الآراء التي تعتبر أن «فتح» في لبنان تعمل ضمن أجندة السلطة الفلسطينية، وأنها تعمل من أجل إنهاء ملف اللجوء الفلسطيني. وعلى فرض أن هذا الأمر صحيح، إلا أن حركة «فتح» و«منظمة التحرير» تتصرفان عكس ذلك -رغم تلمّس انعكاس الخلل التنظيمي في «فتح» على أدائها- وتعمل على تعزيز صمود اللاجئين الفلسطينيين بالمقدّرات التي توفر لهم في لبنان، وتبلغ نحو عشرة ملايين دولار شهرياً موزعة في ملفات مختلفة، منها صندوق الضمان الذي يستفيد منه الكل الفلسطيني تقريباً، وصندوق الطلبة الذي يستفيد منه أي طالب فلسطيني في لبنان لاستكمال دراسته الجامعية، وغيرها من الأمور.
والكلام الأخير ليس دفاعاً ولا انحيازاً إلى «فتح» على الإطلاق، إلا أن الحالة الفلسطينية في لبنان تُبنى على الشائعات أكثر منها على المعطيات والمعلومات، وهذه المصيبة مسؤولة عنها السفارة و«منظمة التحرير» و«فتح» التي لا توفّر جسماً إعلامياً وناطقاً رسمياً يتكلّم باسمها؛ ففي أحداث عين الحلوة الأخيرة، كان على المهتم أو المتابع، أن يتلقّف الأخبار من هنا وهناك، وهذه الـ«هنا» وهذه الـ«هناك» هما من ضمن مجموعات «واتساب» يديرها من يديرها، ويرسل فيها ما يصله من معلومات صحيحة ومفبركة أو محرّفة أو مخرجة عن مضمونها، أو مستدعاة من أحداث أو بلدان أخرى. في حين أن السهل البسيط، هو وجود ناطق رسمي، ومنصة إعلامية محترمة ووازنة تنقل الخبر الصحيح.
وبالعودة إلى تكوين مخيم عين الحلوة، ومآلاته، فإنّ الفلسطينيين في لبنان، يستحقون ما هو أفضل، من كرامة وأمان وحرية، وهذا لن يحدث، طالما أن عوامل فلسطينية في الداخل قادرة على التغلغل في أوساط اللاجئين الذين يحتاجون إلى العمل والمال والإيمان بأن هناك ظهراً يمكنهم الاستناد عليه وقت الشدة. إلا أنهم في كثير من الأحيان يشعرون أنهم «مثل السيف فردا».
وختاماً، قد يُفهم مما سبق، أنه موقف لصالح حركة «فتح». للدقة، الموقف الدقيق هو انحياز تام إلى أهالي مخيم عين الحلوة وباقي المخيمات، فليس مهمّاً من يدير المخيمات، لكن المهم أن لا يبقى بيننا من يقتل أهله في لحظة حاسمة، ويأخذنا إلى تدمير مخيم آخر بعد مخيم نهر البارد. إذاً فلتكن إدارة المخيمات لـ«حماس» أو «الجهاد» أو «الشعبية» أو «الديمقراطية»، أو فلتُجْرَ انتخابات في المخيمات لاختيار من يديرها، لكن على من يتولّى هذه المسؤولية أن يحفظ كرامة شعبنا، ويحفظ أمانه وحياته.