يُعرّف تاريخ الأمم بصفته سياقاً يقسّم إلى مراحل متفاوتة ما بين الصعود والانحدار، يرسم كلٌّ منها ملامح المرحلة المقبلة، التي غالباً ما تكون ردّة فعلٍ على ما سبق. وفي تاريخنا العربي، كان الخروج من مرحلة النهضة القومية شاقّاً، حمل معه مناهج فكريّة مناقضة لمبادئ مرحلة المواجهة والتحرير والوحدة. ومن الأفكار التي انتشرت بقوّة في زمن الهزيمة والتي لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم، فكرة انكفاء «الصغار» إلى هامش التاريخ الذي يصنعه «كبارٌ» يتحكّمون بكامل مفاصل اللعبة. وتستمدّ هذه الفكرة جذرها من الشكّ الأوروبي الناتج من العدد الهائل من الضحايا الذين سقطوا في حروب كانت غايتها الأولى ترسيخ وتوسيع نطاق السيطرة على العالم ونهب الموارد الطبيعية. وقد عبّر عن هذا الشعور سابقاً المؤرخ الألماني والتر بنيامين حين قال: «إنّ من خرج منتصراً - كائناً من كان - يشارك في موكب النصر، حيث يخطو حكام اليوم على أجساد من سقطوا في الميدان». وفي سياقنا العربي، تُرجمت هذه العبارة إلى مقولة «ستنتهي الحرب ويتصافح القادة» التي تُنسب زوراً إلى محمود درويش.
فما علاقة كلّ هذا بجنين؟
في الواقع، إنّ تشخيص حقيقة الحرب الاستعمارية الصهيونية ضد الأمة العربية يكشف بعض التشابه مع فكرة الانكفاء. فمعركة إسرائيل لإبادة الشعب الفلسطيني (بصفته العائق الديموغرافي الأبرز بوجه إقامة المخفر الاستعماري) هي في جوهرها أداة تهميش لفئات هذا الشعب عن واقعه السياسي، وذلك من خلال منع هذه الفئات من البقاء في الأرض والاستفادة من الموارد والمساهمة في تشكيل واقعها السياسي بإرادتها وضمن نطاق هويتها. ويُعدّ التهجير أحد أوضح وجوه التحييد، بعد الإبادة الجسدية، والذي ينتج تشكّلاً ماديّاً يعبّر عن هذا التهميش بصورة ناصعة: «المخيّم». وعلى الرغم من مركزيته في تعريف القضية السياسية، يختصر المخيّم جميع معاني التهميش، بدءاً من الهوية وصولاً إلى أبسط أشكال الحياة. فالمخيّم أرضٌ مؤقتة، أصل تاريخها مأساة، ومستقبلها مرهون بحربٍ لن تقلّ دمويّةً مع الأيام. وما بين الماضي والمستقبل، يقبع الحاضر ثقيلاً على المخيم، فهو في نهاية المطاف تجمّع لفقراء (وبأدقّ تعبير مُفقرين) لا يملكون سوى عقولهم وزنودهم لتحصيل الفتات من منظومة اقتصادية طاحنة يرعاها العدو بشكلٍ أو بآخر. أمّا أهل المخيّم، فهم المُبعدون قسراً من أراضيهم، المحرومون من حرّية الحركة والتنقّل وفرص العمل، والمتروكون على هامش التاريخ والسياسة. واقع التهميش الذي يحاصر المخيّم ليس حكراً على جنين، بل هو صفةٌ من الصفات التأسيسية لفكرة المخيّم. قاومها الشعب الفلسطيني عبر التاريخ، لكنها ما لبثت أن جثمت على صدره بعد اتفاقيات الاستسلام وتنازلات «الدولة».
المشهد في جنين يمكن تلخيصه كالآتي: ثلّة من المهمّشين الذين اقتحموا صدر التاريخ وأصرّوا على صياغة صفحاته بأيديهم


لكنّ مخيّم جنين يصرّ على سرد رواية أخرى. بالتأكيد، للمعركة الحالية، كما السابقة عام 2002، تفاصيلها الميدانية التي تشكّل أساس فهم الواقع المقاوم في جنين واستراتيجيات العدوّ للقضاء عليه. لكن من ناحية ثانية، فإنّ المشهد في جنين يمكن تلخيصه كالآتي: ثلّة من المهمّشين الذين اقتحموا صدر التاريخ وأصرّوا على صياغة صفحاته بأيديهم. فهنا، في المخيّم المقاتل، القادة لا يتهافتون لمصافحة قادة العدو، بل يرابطون لمنازلة جنوده في الميدان. في المخيّم المقاتل، لا يستسلم الشاب العشريني لبلادة النظم التعليمية، ولا لظروف البؤس المحيطة، بل يجتهد حتى يرتقي إلى مصاف مقارعة أكبر عقول التجسّس ومصانع السلاح. هنا القرار السياسي ليس فيه كبير أو صغير، فالكبير هنا هو من يؤلم العدوّ، والصغير هو من يخضع أمام البسطار. في مخيّم جنين، تثبّت المعادلات بقرار وفعل أبناء المخيّم، بعيداً عن الاستعراض، بل لفرض واقعٍ جديد في الحياة السياسية الفلسطينية، قوامه إعادة المخيّم وكلّ بقعة مهمّشة إلى حلبة الصراع. ومجرّد استعادة المخيّم للقب «المقاتل»، فإنّ ذلك نصرٌ على صعيد الوعي بالدرجة الأولى. فالمخيّمات الفلسطينية تحيا فقط بكونها قواعد انطلاق للعمل الفدائي، وتموت إذ تنحصر في خانة اللجوء العاجز.
إنّ المعادلة التي يرسمها مخّيم جنين بدماء وحكمة أبطاله، لا بدّ أن تكون النافذة التي نستعيد من خلالها دور المخيّمات الفلسطيني في كلّ بقاع الشتات. فكلّ صفات الفدائي لا تزال حاضرة فينا، ولنا من التاريخ ما يكفي ويفيض لكسب الخبرة من التجارب السابقة والبناء عليها. لكن يبقى أن ندرك القوّة الكامنة فينا ونلتزم بخوض معركة الصعود من الهامش إلى صدر التاريخ. وإن كان لجنين جميل العموري، فغداً سيولد من كلّ مخيّم فلسطيني جميلٌ يحمل الراية.
ختاماً، لقد خطّ مخيّم جنين مجدّداً رسالة كلّ المخيمات الفلسطينية والقابعين فيها على هامش التاريخ:
سوف ينتهي المخيّم، لكن بشرطنا... وشرطنا التحرير.