صيف عام 1982، رعدت السماء من صوت هزّ أبنية مكتظّة بالسكان، وأحالها خلال دقائق إلى ركام. تناثرت أجساد قاطنيها أشلاء وضاعت في الحطام. الدخان الأسود الكثيف المتصاعد عمودياً من حيّ الفاكهاني في بيروت بعد كل غارة لطائرة حربية إسرائيلية، تستدلّ به سيارات الإسعاف إلى حيث الفاجعة. كثر لم يسعفهم الوقت لحمل صغارهم وكبارهم والنجاة بهم من الموت، فتحوّلوا إلى مفقودين مجهولين. «نجا» منهم من فاز بالعزاء بعدما دلّت عليه بطاقة لاجئ ظلّ يمسكها بيده التي كانت تمتدّ محطمة تحت الأنقاض، فصار له ضريح في المنفى. صيف عام 2023، كسر هدوء ساعات الفجر الأولى، تمركز عدد من الآليات عند أطراف مخيم جنين. تمركز ترافق مع إطلاق كثيف للرصاص، ورميات من القذائف مهّدت لمحاولات التوغّل في أحياء المخيم. طائرات حربية شاركت هي الأخرى بتوجيه صواريخها نحو أهداف محددة داخل المخيم الذي اهتز على وقع الانفجارات. تدمّرت مبان، توزّع سكّانها بين طفلة شهيدة وشاب شهيد، ومشرّدين أحياء كتب لهم أن يتحوّلوا إلى لاجئين مرة أخرى، هذه المرة من المخيم. هؤلاء الذين نزلوا قبل سنوات من جبال الكرمل، ساروا مع المنحدرات نحو الجنوب الشرقي لتستقر بهم الرحلة في مدينة ذاع صيتها يوم ثارت على الإنكليز.
لصيقة هي العلاقة مع الصفة. لاجئون هنا ولاجئون هناك. تحت القصف لاجئ وبين الركام لاجئ. في الموت كما في الحياة. هل تحوّلت هذه الكنية المضافة إلى الفلسطيني إلى هدف بحد ذاته؟ إلى موقع عسكري تخرج إليه أسراب الطائرات الحربية المتطورة، لتقذفه بأعتى الأسلحة؟ إلى شاب أغار بسلاح أو بسكين على مستوطن، فجنّد العدو لقتله وحدات متخصّصة، قوات خاصة، كتيبة ولواء وجيش كامل وطائرات؟
إلى هذه الحدود، تقلّصت المسافة في المعركة الوجودية. المطرودون من أرضهم مطارَدون إلى آخر جيل منهم. مطلوب القضاء عليهم أينما وجدوا. فما كادت الطائرة تقلع من مطارها العسكري حتى كانت تنفذ غارة على مخيم جنين. إنه منطقة يمكن الوصول إليها سيراً على الأقدام من أقرب نقطة متاخمة في فلسطين المحتلة عام 48، يتم دكّها بالمدفعية والصواريخ والطائرات. هذه المنطقة ليست غزة ولا الفاكهاني، ولا تلال الناعمة، ولا الحدود اللبنانية السورية، هذه ليست مخيم اليرموك ولا ضواحي حمص وحلب ودمشق، هذه لا تتكلّم عن تونس أو دير الزور أو حتى مفاعل العراق النووي. هذه أيضاً ليست هدفاً غامضاً وقع عليه الخيار الإسرائيلي في مرتفعات صنعاء ذات عملية صامتة جرى الوصول إليها بخفّة التحليق لمسافات بعيدة وفي ليلة غادرة. هذا مخيم جنين، وإن صار يحمل ويختزل كل أسماء الأماكن أعلاه. فإنه الموقع المتقدّم الذي لا يبعد عمّا يسمى «الخط الأخضر» سوى بضعة كيلومترات قليلة.
المسألة في الصفة التي لم تنجح معها كل عمليات الإخضاع. فشل حزب «بيت إيل» (مقر التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال) في إنزال الأسود من عرينها. فشل أيضاً في لجم استنساخ تجارب «الكتائب» الموزعة بين طوباس ونابلس وقباطية وجنين، وخلفه، ومن وراء الحدود وبالتكافل، فشل أيضاً المراهنون على التوطين من أجل تغيير ملامح هذا الذي اسمه «قوم جبارين». فشلوا في كل السياسات التي استخدموها من أجل صرفهم نحو الغرق في متاعب الحياة اليومية، نحو إخضاعهم وإذلالهم كي لا تقوم لهم قائمة من الجوع والتشرّد والشتات، يصبحون في حالة من الاغتراب عن التاريخ والحاضر.
لاجئ صار هدفاً عسكرياً. إنه أكثر من صراع على التاريخ. إنها الجغرافيا بذاتها التي تنجب أبناءها وتهب أصحاب الأرض سماتها القاهرة للغزاة... كل الغزاة.