لطالما سعت إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى خلق «فلسطيني جديد»؛ فلسطيني بعيد من قضيته، همّه كسب المال، وتقبل العيش مع الاحتلال، وإذا كان معترضاً على شيء، يمكنه «حل النزاع بالطرق السلمية». أرادت إسرائيل فلسطينيين مسالمين، يجدون في التنسيق الأمني وسيلة للحفاظ على «الدولة الفلسطينية» المزعومة. فلسطينيون مشغولون بتأمين قوت يومهم، أو بالعمل لدفع قروضهم السكنية. فلسطيني لا يهمه ما يجري في غزة، ولا في الداخل المحتل، ولا في الضفة، فلسطيني كل همّه بيته، وأقصى اهتماماته، حيّه.بعد إنهاء الانتفاضة الثانية، وضعت إسرائيل والولايات المتحدة خطة لإعادة بناء «الفلسطيني الجديد». فتقرر اعتماد سياسة اقتصادية منفتحة اتجاه الضفة المحتلة، والسماح لعدد كبير من الفلسطينيين العمل في الداخل المحتل، إضافة إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الفلسطيني لتسهيل الحصول على قروض سكنية، بتقديم مغريات اقتصادية ومالية، ما يجعل الفلسطيني يرفض العودة إلى أي نشاط عسكري، أو التفكير بأي انتفاضة جديدة، لأن ما سيخسره سيكون أكبر مما يربحه.
بعد حلّ السلطة الأذرع العسكرية لحركة «فتح»، شئنا أم أبينا لا انتفاضة في الضفة الغربية المحتلة من دون «كتائب الأقصى» (الذراع العسكرية لـ«فتح»)، واغتيال قائد الانتفاضة الشهيد ياسر عرفات، واعتقال العدو لأبرز قيادتها العسكرية (مروان البرغوثي وأحمد سعدات)، أسهمت السلطة في ترويض الجزء الآخر من القيادات العسكرية لـ«فتح»، مثل حسين الشيخ، وبعد ذلك جلبت في العام 2009 الموظف السابق في البنك الدولي سلام فياض لتحويل الاقتصاد الفلسطيني من اقتصاد حربي إلى اقتصاد قائم على الشحاذة والهبات، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير. هذه السياسات أمّنت للعدو الإسرائيلي فترة هدوء ذهبية في الضفة المحتلة، لكن مع مطلع العام 2015 برز جيل فلسطيني جديد.
جيل شاب عايش الحروب الإسرائيلية الأربعة الكبرى على غزة (2008-2009، 2014،2012)، جيل أدرك بأنه يمكن للمقاومة وللكفاح المسلح أن يوصلوا إلى نتيجة ما. جيل لم يتأثر كثيراً بالدعاية الإسرائيلية، وبما تروّج له السلطة الفلسطينية، من حلّ النزاعات بالطرق السلمية. الجيل الجديد اختلف، عمّن سبقه، وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في زيادة وعيه. كما أن كمّية المعلومات التي تصله، والأحداث التي يراها تقع في وطنه، أسهمت في تشكيل وعيه. هذا الجيل نشأ وهو يرى المستوطنات الإسرائيلية تحيط به، تنمو وتزدهر، بينما يعيش هو في غيتوات يحاصرها جنود العدو، ويفرض عليها إغلاقات عندما يشاء.
في العام 2015، اختمر الغضب وتفجّر، في ما عرف بـ«انتفاضة السكاكين» التي عبّرت عن اعتراض الجيل الجديد على الواقع الفلسطيني. إذ لا دولة فلسطينية موجودة، وجرائم إسرائيلية مستمرة، وتزايد الاعتداءات على المسجد الأقصى، وفائض قوة إسرائيلي، كل ذلك حتّم عليهم التحرّك.
الجيل الفدائي الجديد أوعى ممّن سبقه فهو جرّ الفصائل الفلسطينية إلى حيث يريد


الجيل الفدائي الجديد أوعى ممّن سبقه. فهو جرّ الفصائل الفلسطينية إلى حيث يريد. وهو حدد لها سياستها، وأجبرها على التواصل والتنسيق في ما بينها. في الماضي، كانت تصدر بيانات لعمليات مشتركة بين الفصائل وكأن الأمر إنجازاً، لكن اليوم، هذا التنسيق موجود على الأرض، وترسّخ بالدم، ومن دون الحاجة للعودة إلى قرار فصائلي، للتنسيق بين المقاتلين.
مثلاً، اعتادت الفصائل على تبني العمليات، لكن بعد هبة عام 2015، تغيّرت هذه السياسة، لم تتبن الفصائل في الفترات الماضية عمليات الطعن أو إطلاق النار إلا في حالات نادرة، مثلاً في 2 أيار الماضي، تبنّت كتائب «القسام» عملية أرئيل بعد إلقاء القبض على منفذيها، واكتشاف الاحتلال خلال التحقيق معهم أنهم تواصلوا مع «القسام» في غزة قبل تنفيذها. سياسة الغموض لا تزال مستمرة، كما أن منفذي العمليات والمشتبكين من الجيل الجديد يختلفون عن أسلافهم. فقد تجد أحدهم ملتحفاً براية لـ«الجهاد الإسلامي»، وفي صورة أخرى بعلم «فتح»، وبتسجيل صوتي تجده يهتف للقائد العام لكتائب «القسام» محمد ضيف.
الشباب الموجودون في نابلس وجنين اليوم، تجاوزوا الانقسام الذي سعى العدو الإسرائيلي إلى ترسيخه، وهم عيّنة حيّة عن «وحدة الساحات»، وأكبر دليل على ذلك، التنسيق الموجود بين «كتائب الأقصى» و«القسام» و«سرايا القدس»، في مناطق عدة من الضفة الغربية المحتلة، ممّا جعل الواقع على الأرض متغيّراً، لم يعد الفدائي الجديد منعزلاً داخل شارعه. فعندما يقتحم العدو الإسرائيلي جنين يهبّ شباب نابلس لإطلاق النار على حاجز حوارة، وعندما تقتحم نابلس، يهب شباب جنين وطولكرم لإطلاق النار على الحواجز الموجودة هناك، وما يجري يبشّر بخروج مناطق عدة من الضفة عن السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية، ممّا يجبر العدو الإسرائيلي على النزول بنفسه على الأرض، ما يزيد من فرص استهدافه أكثر.
في 9 آب الماضي، نجح العدو الإسرائيلي في اغتيال الشهيد إبراهيم النابلسي، وذلك بعد محاولتين نجا منهما. في الأولى في شباط الماضي، ارتقى رفاقه محمد الدخيل، أدهم مبروكة (الشيشاني)، وأشرف المبسلط. وفي الثانية، نجح في الفرار من المكان المستهدف، لكن في المرة الثالثة، استطاع العدو اغتياله مع رفيقيه، بعد اشتباك دام لساعات.
النابلسي ابن الـ19 سنة، أرّق العدو، ودفعه لتنفيذ عمليات عدة لتصفيته، هو من الجيل الذي سعت إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى تطويعه، جيل «حل النزاعات»، جيل كان رضيعاً في الانتفاضة الثانية، وطفلاً خلال هبّة السكاكين. جيل أثبت أنه أوعى ممّن سبقوه، جيل متمسّك بالبندقية، وأن الوصية الأساس كانت وستبقى «ما حدا يترك البارودة».