أخيراً، حسم أيمن النجار أمره، وقرّر أن يتحمّل آلام «آخر الدواء» لمرّة واحدة، حتى لا يُكمل بقيّة حياته حبيساً له، على رغم أنّ «آخر الدواء» هذا، هو البتْر وليس الكيّ. النجار، ابن الـ28 عاماً، هو أحد مصابي «مسيرة العودة الكبرى» عام 2018، وقد أجرى حديثاً عملية بتر لساقه اليُمنى، بعد مرور سنوات على إصابته بطلق ناري متفجّر. يقول النجار إلى «الأخبار»: «قاومْت البتْر، وتحمّلْت الألم الذي تسبّبَت به الإصابة طوال أربعة أعوام، وبعد خضوعي لعدّة عمليات، تبيّن أنّ الألم جرّاء قطع عدد من الشرايين والأوتار سيبقى رفيقي طول العمر، لذا، وجدت نفسي مضطرّاً للدخول في فئة الأشخاص ذوي الإعاقة، حتى أستريح من العناء». ويُشير الشاب العشريني إلى أنّ اتّخاذ قرار كهذا كان بالغ الصعوبة، إذ سيجبره على الانضمام إلى مصافّ العاطلين عن العمل، إضافة إلى الأثر النفسي القاسي عليه، لكن «ما باليد حيلة»؛ فقد وصل الأطباء الذين يتابعون حالته إلى آخر المطاف، وأبلغوه بأنه لن يُشفى من تلك الآلام، إلّا إذا بُترت ساقه.غير أنّ الجريح محمد المغاري، الذي يُعاني من إصابة شديدة في ساقه اليمنى، ويتعاطى الدواء مذ أصيب فيها بطلقة قنّاص متفجّر قبل أكثر من ثلاث سنوات، قرّر أن لا يستسلم؛ فهو يرى أن احتماله الألم الذي تسبّبت به إصابته، أهون من أن يصبح أسيراً للكرسيّ المتحرك. ووفقاً لتقرير مؤسّسة «أطباء بلا حدود»، فإنّ المغاري يُعاني التهاباً مزمناً في العظام، حيث تسبّبت الالتهابات بتنامي بكتيريا مقاوِمة لمعظم المضادّات الحيوية، ما يحدّ من استجابته للأدوية، لذا، أوصى الأطبّاء في الأردن ومصر، بأن الحلّ الأمثل لوقف الألم، هو البتْر.
ويؤكّد الدكتور محمد قنبز، وهو أخصائيّ العظام في «مستشفى ناصر الحكومي»، أنّ نسبة جرحى «مسيرات العودة» الذين تزايدت حاجتهم إلى إجراء عمليات بتْر للأطراف بعد مرور سنوات على إصابتهم، في تزايد مستمرّ، لكن كثيرين منهم يرفضون البتْر بثبات، على رغم أن الالتهابات البكتيرية التي يُعانون منها قد تتطوّر إلى تسمّم قاتل. ويوضح قنبز أنه «بالنسبة للكثيرين، يُعتبر البتْر الملاذ الأخير الذي يُنظر إليه على أنه نوع من الفشل الطبّي، على الرغم من أنه قد يؤدي إلى حدّ كبير إلى تحسين نوعية حياة المصابين». ويُشير الطبيب الذي تابع حالات أكثر من 50 مصاباً مشابهاً لحالة المغاري، إلى «(أنني) عملت مع مصابين من مسيرة العودة الكبرى منذ البداية... أولئك الذين ما زالوا يتلقّون العلاج اليوم يعانون أكثر من غيرهم، فكلّما طالت رحلة التعافي، زادت احتمالية الإصابة بالالتهابات».
وتُشير إحصائيات الأمم المتحدة إلى إصابة أكثر من 36 ألف شخص خلال 18 شهراً من فعاليات «مسيرات العودة»، 22% منهم بالرصاص الحيّ، و7000 منهم في الأطراف العلوية والسفلية من الجسم، ما تسبّب بإجراء 156 عملية بتْر. محمد عليان، هو واحد من هؤلاء المصابين، يقول، في حديثه إلى «الأخبار»، إنّ إصابته أقعدتْه عن عمله في صالون تصفيف الشعر الذي كان يديره، وقد سافر إلى عدّة بلدان لتلقّي العلاج من بينها تركيا ولبنان، لكن كافّة الجهود التي بذلَتها الطواقم الطبّية في غزة والخارج، لم تخفّف من حدّة الألم الذي ما زال يعانيه بعد أربعة أعوام على إصابته. ويبيّن عليان أن التقارير الطبّية أشارت إلى إصابته بنوع غريب من الرصاص المتفجّر، يُسمّى شعبياً بـ«الفراشة»، وهو يتشعّب داخل الجسم إلى شظايا، تعمل على تقطيع الشرايين والأوتار الحسّاسة، ما يؤدّي إلى تعطيل عمل الأطراف، فضلاً عن تَسبّبه بالألم مع تقادم الإصابة.
وتساهم محدودية الإمكانيات الطبّية في القطاع، والضغط الذي تعاني منه المؤسّسات الصحّية الحكومية، في تحويل الإصابات التي تتطلّب عمليات جراحية معقّدة إلى مستشفيات الضفة الغربية المحتلة، لكن الحصول على تصريح للعلاج، ليس متوفّراً في الأغلب. وتوثّق الأمم المتحدة أنه من بين 604 طلبات، تمّت الموافقة على 17% ورفض 28%، بينما لم يتلقّ الباقون إجابة في الوقت المناسب على مواعيدهم الطبّية.

الفقر يضاعف الألم
إضافة إلى الألم الذي يعيشه المصابون، فإنهم يعانون من أوضاع مادّية صعبة، خصوصاً منهم مصابو الأطراف، الذين أَقعدهم وضعهم الصحّي عن العمل. ويتلقّى المصابون مساعدات مقطوعة لا تتجاوز الـ700 شيكل (230$) في كلّ ثلاثة شهور، تصرفها الحكومة في غزة، فيما لا تعترف حكومة رام الله بجرحى «مسيرات العودة»؛ إذ لم تُضِف إلى سجلّاتها عقب حرب عام 2014 إلّا حالات معدودة. «الفقر يؤلم أكثر من الإصابة»، يقول الشاب محمد المدهون، ويتابع في حديثه إلى «الأخبار»: «أعِيل أسرة مكوّنة من ثلاثة أبناء، وفقدْت عملي الذي كنت أحصل منه على قوت يومي، ونحن والآلاف مثلنا نعيش رهناً للمساعدات المقطوعة». ومؤخّراً، أقدمت الحكومة في غزة على قطع رواتب المئات من المصابين. ووفقاً لعامر أبو القمصان، وهو المتحدّث باسم جرحى «مسيرات العودة»، فقد تفاجأ الجرحى في نهاية العام الماضي بخصومات فرضتها وزارة الشؤون الاجتماعية في القطاع على رواتب الجرحى، فضلاً عن قطع رواتب أعداد كبيرة.