هكذا أصبح يوم الثلاثين من آذار، منذ عام 1976، يوماً خالداً للأرض؛ تمجيداً للملحمة البطولية المستمرة في وجه الاحتلال وسرقة الأرض وابتلاعها وتهويدها وتشويه تاريخها وتراثها وذاكرتها، واقتلاع شعبها وتشتيته، ليثبت مع ذلك اليوم التاريخي شرعية البقاء والوجود والصمود والعهد على النضال والمقاومة حتى تعود إلى أهلها وأصحابها.لمشهدية يوم الأرض بُعد واعٍ، وانطلاقاً من عدم تحويلها إلى مناسبة فولكلورية، غير قابلة للترجمة في الساحة السياسية، تحتاج إلى مقاربة في الفكر السياسي العقلاني والواقعي؛ إن تغييراً قد حدث على طبيعة الحرب، لجهة ارتفاع مكانة البُعد الاجتماعي في الصراعات الاستراتيجية، من جهة القدرة لكل طرف في التأثير على الوعي المدني للطرف الآخر، لذلك أصبحت الحرب حرباً على عقول البشر وقلوبهم. ويسمّي البعض هذه الظاهرة «نظرية الحرب الاجتماعية» التي تجعل المجتمع المدني في المركز. صحيح أن الأرض محور الصراع، واحتلالها هو مصدره وغايته. لكنها ليست بمعزل عن احتلال الإنسان والمجتمع والوجود، لأن الحسم يكون في معركة الوعي بين الحق والباطل؛ على مبدأ «يضيع حق إذا ضاع المطالب». فالوجود هو الحامل الموضوعي الاجتماعي للصراع ولفكرة حتمية التحوّل التاريخي لإحقاق الحق، ولكن يجب أن ندرك بأن هذه الثقة بحتمية النصر تخبو أو تنشط حسب قوة البعد الاجتماعي أو ضعفه. كذلك بقاء أو نهاية هذا الوجود، وعيه أو لا ــــ وعيه لهذا الحق، عامل توحدة كطاقة كامنة، لا يمكن نزعها من أعماق الشعب الفلسطيني، لأنها تستند إلى قناعة هذا الوجود بحتمية التحرير. وحدة الأرض، كل الأرض، والشعب، كل الشعب، والقضيّة، كل القضيّة، الغاية الجامعة لهذه الثلاثية الذهبيّة، التي تلخص صراع الوجود، فالحرب على الأرض تبدأ بالحرب على الوجود الفلسطيني، المتجذر بالأرض في سبيل تحرير فلسطين.
‎يقول ميكافيلي إنّ الخطأ الشائع عند الناس هو أنّهُم لا يحسبون حساب العاصفة عندما تكون الرياح هادئة. لكن استشعار يسرائيل كينغ تفوّق على شيطانية صاحب كتاب «الأمير»، عبر كتابته الوثيقة العنصرية التي سمّيت «وثيقة كينغ»، وذلك قبل العاصفة وبعدها، الجزء الأوّل قبل يوم الأرض عام 1976، والجزء الثاني (الملحق) تمّ تحضيره بعد ذلك، ويستدل منها أن الحكومة الصهيونية حوّلتها إلى بوصلة استراتيجية للتعامل مع المواطنين العرب. بعدما فاجأتهم تظاهرات يوم الأرض التي كانت جارفة إلى الحدّ الذي سحبت فيهِ معها مُعظم فلسطينيي الدّاخل. أتت هذه الوثيقة بتوصيات لكيفية التعامل مع الفلسطينيين داخل الكيان، لا تزال مفاعيلها باينة في النقب، كما الجليل والقدس والقوانين والمراسيم الصهيونية، لتظهر أنّ الدولة العبريّة تعتبرهم خطراً كامناً وتُصرّ على قوننة الأبارتهايد، وتتعامل معهم كأعداءٍ لها.
لطالما اعتبرهم العدو الصهيوني أنّهم الخطر الوجودي الكامن على الكيان، لذا، انتهج سياسة سيطرة وقمع ومنع تطور المجتمع وتدمير نُخَبِهِ السياسية والثقافية والعلمية والمدنية. فمهمة المشروع الصهيوني المضاد لم تتوقف يوماً عن مهمة نفي وتجريد المشروع الفلسطيني من قوته، وعزله عن محيطه وصولاً إلى فكفكته، ثمّ محو الشخصية الوطنية الفلسطينية، كشخصية نقيضة له، وكذلك محو ذاكرة الفلسطيني، زمانياً ومكانياً، والعمل الدؤوب لاغتيال أحلامه، وتحقيق حقه بالعودة.
المقاومة المجتمعيّة تجلّت بأبهى صورها في أيام سيف القدس


من عناصر القوة التي ظهرت في معاني يوم الأرض:
ــــ في يوم الأرض، سقطت مقولة «أرض بدون شعب، لشعب بدون أرض» كما روّجت لها الصهيونية. الوجود هو الشاهد الحي على الحق، والأرض لم تعد مجرد ترنيمة شعرية عليها «ما يستحق الحياة»! بل غدت هي الحياة والهواء والحرية والهوية والانتماء والبقاء، وسر الوجود الفلسطيني الذي لا ينطفئ. هكذا وبعد 28 سنة على احتلالها عام 48 انتفض الجليل والمثلث، في وجه التهويد وسرقة الأرض وابتلاعها واحتجاز الحياة. قالها أحد قادة الصهاينة العنصريين: «كنا نظنهم ليسوا سوى حطابين وسقايي مياه، لنكتشف أنهم فلسطينيون...».
ــــ بعد يوم الأرض، لم يعُد الشعب العربي الفلسطيني المحتل عام 48 يسمّى «البقية الباقية»، بل هو جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني ومن الأمة العربية، وبعدها تبلورت الشخصيّة الوطنية، ولم يستطع هذا العدو أن يلغي هذه الشخصية أو الهوية العربية القائمة على أرض فلسطين. ترعبه الحقيقة كما الحق، لذلك جاء قانون الدولة اليهودية ليعكس أزمة الهوية وأزمة شرعية الوجود، كما لقوننة رسمية للفصل والانفصال العنصري.
ــــ من يوم الأرض إلى انتفاضة الحجارة وهبّة أكتوبر إلى هبّة الأقصى وسيف القدس، فوجئ الذي راهن على أن سنوات الاحتلال ستجعل منه وجوداً سلبياً يضحي بذاته وهويته ووجوده وفلسطينه. يخطئ من لا يعتقد أن فلسطين كانت وما زالت هدف الاشتباك المجتمعي التاريخي الشامل، والمقاومة المجتمعية التي تجلّت بأبهى صورها في أيام سيف القدس، إذ نلحظ كيف ازداد مؤشر الخطر الوجودي عند الكيان، حينما وجد ذاته، ليس في مواجهة جيش نظامي أو مجموعات أو فصائل، على أهميتها، وإنما بمواجهة شعب نشيط حيوي يبادر ويقاوم ويدافع ويبني ويطارد، يدرك مكانة كل تجمع فلسطيني وكل فئة، من الجامعة إلى الإعلام والفن والرسم والكلمة والثقافة والتراث والعلم، إلى وسائل التواصل إلى قيمة القدس وخطورة الاستيطان والزجاجة والطلقة والصاروخ... المقاومة المجتمعية لشعب يتصرف في كل أماكن وجوده كَنِدّ للاحتلال.
مشهدية يوم الأرض تطرح مفهوم الوعي و«معركة الوعي» والتي اتخذت طبقات إضافية من التفسير والتحليل والتنفيذ مع مرور الوقت، لذلك تتجدد موقعة يوم الأرض، طالما وثيقة كينغ سارية المفعول منذ 1976، الوثيقة التي أضحت دستوراً نموذجياً لنظام أبارتهايد، لشن حرب على الوعي العربي، والذي يعتبر العرب سطحيين ومتخلّفين بحاجة إلى علاج خاص ومراقبة دائمة، ويسعى إلى خلق واقع فاشيّ يلاحق ويمنع ويدمّر المجتمع العربي في شتى المواضيع، بالتوازي مع خطوات تفريغ المشروع الوطني من مضمونه الوطني والتحرري كأداة توحّد الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده.
لذا، تسرّع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الخطى لشن الحرب الاجتماعية، لتصفية المقاومة المجتمعية الفلسطينية الصامدة فوق أرضنا منذ عام 1948، وتغذية المشاعر العنصرية وتحويلها إلى قانون ونظام تربية وممارسة تطبيقية كأداة سياسية ونماذج في مواجهة المجتمع العربي، على سبيل المثال وليس الحصر:
1ــــ نموذج «الموت للعرب»: العنصرية الرسمية والشعبية ليست سوى مؤشر على ما يمكن أن يتطوّر له الوضع في المستقبل المنظور. لقد شكل الإجماع اليهودي ضد العرب مدخلاً لهجمة أكبر على الوجود العربي برمّته، وخاصة في المُدُن المختلطة، حيث تظهر بوضوح أكبر عبر شعارات «الموت للعرب» المكتوبة على جدران منازل عربية وبنايات عامة. يؤشر إلى أن العرب لم يعودوا بالنسبة إلى اليهود سوى غرباء في وطن ينكرونه عليهم ويشدّدون سعيهم لطردهم منه.
2ــــ نموذج إعادة إنتاج هتلر: من خلال إقرار قانون الدولة اليهودية القومية، كنموذج مستمد من النازية وسياسة العرق الراقي وشعب الله المختار، من خلال المطالبة بتحقيق الدولة النقية، تحقيق الحلم الصهيوني الذي بات يشكل خطراً جدياً، كونه يسير عكس حركة التاريخ والقانون الإنساني، على مستقبل الفلسطينيين وحقوقهم في الداخل والخارج. ويرفع الغطاء عن أصحاب شعارات الاندماج وتحسين الحياة المعيشية داخل الكيان، والمطالبة بالمساواة والاعتراف بالمواطنة وبحقوق السكان الأصليين في ظل «الدولة اليهودية»، ويضع المجتمع الفلسطيني خارج نطاق مواطنتها الفعلية وديمومتها.
3ــــ نموذج «فرّق تسُد»، القاعدة الاستعمارية القديمة ــــ الجديدة: إذا كان فلسطينيو 48 يشكلون 19 في المئة فقط من سكان دولة الاحتلال، لماذا 70 في المئة من الجرائم فيها تقع في صفوفهم؟ وأن نسبة ضحايا القتل لكل 100 ألف شخص في المجتمع الفلسطيني تبلغ خمسة أضعاف نسبتها في المجتمع الإسرائيلي؛ تظهر تورط الكيان في إدخال المجتمع الفلسطيني في عالم الجريمة الاجتماعية. بما فيها وسائل القتل من سلاح وسموم ومخدرات. تسهيل حصول هذه الجرائم، ولماذا وإلى أيّ حدّ يسهم ذلك في إذابة الهُويَّة الفلسطينية العربية لهم أمام باقي الهويات القائمة في دولة الاحتلال.
4ــــ نموذج تدمير نخبة المجتمع: العمل على سيطرة الاحتلال على جهاز التعليم والتحكم بالمناهج لمحو الهويّة الفلسطينية، من خلال محاربة التفوّق وتهميشه للسيطرة عليه وتظهر عنصرية التعليم ومحاولات دفع الطلّاب العرب للمواضيع العلميّة والطبيعيّة بدلاً من العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، كما ذكر في توصيات «وثيقة كينغ»، هذا التوجيه يجعلهم أقلّ انشغالاً بالقضايا الوطنيّة. لذلك، يمسك الكيان بمضامين المنهاج بحيث تخدم الرواية الإسرائيلية من جهة، وتعمل على مسخ هوية الطلاب التي تتشكل من اللغة والتاريخ والدين وانتمائهم الفلسطيني والعربي والإسلامي؛ وغسل أدمغتهم من خلال فرض الرواية الاحتلالية على مضامين المنهاج.
5ــــ نموذج «فوبيا الديموغرافيا» الذي يعبّر عنه الكيان في إعلامه وسياساته وتصريحات نخبه السياسية، ولعل اعتماد قوانين السكن والعمل والهجرة... إلخ، وخاصة قانون الدولة اليهودية الذي وافق عليه الكنيست، جاء في جوانبه استجابه لهذا الهاجس الذي ما انفك يقلق القادة الصهاينة، فلم يزل الاحتلال غير قادر على قبول هذا المكون على مدى عمر النكبة، حيث اشتد الصراع بين سياسات الأسرلة والتمسك بالهوية الوطنية.
مع ذلك، تتفاعل مسألة الخطر الوجودي بشأن مستقبل الكيان الصهيوني، وخاصة عندما يشكك كبار الكتّاب والمؤرخين بوجود إسرائيل ومستقبلها؛ والتي دفعت بالمفكر الاقتصادي إسرائيل أومان إلى القول: «إذا لم ندرك لماذا نحن موجودون هنا، وأن إسرائيل ليست مجرد مكان للسكن فيه، فإننا لن نبقى».
الأرض، في يومها، تنتصر لـ«نظريّة الخيار الثوري العقلاني المقاوم» الذي يفصل بين الحق والباطل وبين التضحية بفلسطين، بأرضها وحكاياها وذاكرتها وشعبها وروايتها وحقوقها وقضيتها أو المقاومة لأجل فلسطين. ويكون الكلام أحد شيئين؛ إمّا أن يكون كاملاً أو لا يكون، إمّا مع فلسطين أو عليها! التضحية من أجل «استرداد فلسطين» وليس التضحية بأرض فلسطين (48) أي 78 في المئة من أرض فلسطين، وقبول مشوّه لما تبقّى من الضفة الغربية. وهذا ضرب للاستراتيجي والمرحلي معاً. وفلسطين تعني أن نعلي شأن فلسطينيي الـ 48 ودورهم، والوجود الذي يواجه الممارسات العنصرية وسياسات الأسرلة. لم تكن هذه السنوات كافية أن تُفقد هذا الجزء من شعبنا هويته الوطنية الفلسطينية.
العالم يتغيّر، وسياسات وموازين قوى دولية تغيّرت، ومعها ارتدادات وتداعيات محلية وإقليمية، لكن صوت المقاومة سيبقى «ممنوع التضحية بفلسطين»، لا بأرضها ولا بشعبها، ولا بترك الشتات يغرق في مشاكله الإنسانية دون الأفق السياسي، ودون أي دور يوكل إليه. إن وظيفة الشتات البعيد في الظروف الملموسة هي بناء الذات، واستعادة القوة المهدورة والثقة بالنفس وتظهيرها هويةً ودوراً وفعلاً، والعمل على دعم حركات عزل الصهيونية وكشف وجهها العنصري على مستوى الميدان العالمي، ومحاربة التطبيع وكشف استهدافاته، كل ذلك في إطار مأسسة دور الشتات وقيادته إلى مواقع الفعل الوطني، بما يجعل العالم لا ينام على مأساة شعبنا الفلسطيني وتشريده ومعاناته. أي أن الهدف الناظم لاستراتيجية النضال الوطني هو حفظ الوجود وشرعية النضال لتحقيق حق العودة.
في معركة الوجود ونظرية الحرب الاجتماعية تحدّثت دراسة استراتيجية صهيونية حديثة عن الحملة من أجل الوعي عندما تكون سلبية، أي منع تطوّر حالات الوعي غير المرغوب فيها، أو إيجابية، أي محاولة إنتاج وعي مرغوب، وكيف تستخدم أساليب العمل من الحرب النفسية والعسكرية والاحتيال والتأثير بوسائل إعلام وتواصل اجتماعي، منها المألوف وبعضها تقليدي وغير مألوف، بهدف إقناع مجتمع المقاومة بإلقاء السلاح، وبعدم جدوى مواصلة القتال، وتسخيف مسألة التجذّر بالأرض!
لكنّ إصرار أبناء الأرض على كسب معركة الوعي، ومهما بلغت الصعوبات وأشكال الخداع والهوان والتطبيع، من يُسقط راية فلسطين سيسقط، عاجلاً أو آجلاً. إنّها معركة الرواية الفلسطينية وتنشيط الفعل الثقافي الإبداعي أدباً وفناً ومسرحاً وسرداً وقصة وتوثيقاً، وتحويلها إلى مقاومة شاملة ومعركة وعي وتعبئة وتربية وطنية وحزبية، عنوانها «استرداد فلسطين» أرضاً وشعباً وتاريخاً.

* كاتب روائي، قيادي
في «الجبهة الشعبية
لتحرير فلسطين»