الأحداث التي خاضها أبناء الجولان المحتل في الـ 15 عاماً الأولى على احتلال أرضهم، من 1967 حتى 1982، تعدّ حاسمة في زرع الطريق بثوابت لا يمكن لأحد تخطيها. افتتح الجولانيّون نضالهم بعد هزيمة حرب حزيران 1967. فشلت مشاريع «الأسرلة»، «الدولة الدرزية»، «فرض المواطنة» (الجنسية الإسرائيلية)، والتجنيد العسكري الإجباري، واعتبر قرار مجلس الأمن 479 قانون ضم الجولان لدولة الاحتلال لاغياً وباطلاً. العمود الفقري لتكريس فشل المحتل حتى يومنا هذا هم ثمانية آلاف عربي سوري جولاني في 67، غدوا 13 ألفاً في 1982.وجهاء الجولان، من رجال دين وسياسيين ومثقفين، اتفقوا على خلع ثوب العصبية الحزبية والعقائدية، وارتداء ثوب الوحدة الوطنية، معلنين أن الواجب الوطني والقومي هو المحرّك الأساس لاستنباط واستنهاض القدرات بوجه عدو غاشم. اجتاز عدد من أبناء الجولان، منذ الأيام الأولى للاحتلال، خط وقف إطلاق النار متوجّهين إلى دمشق التي تبعد 64 كلم عن مجدل شمس، ليلتقوا بالقيادات الأمنية والعسكرية بهدف التنسيق والتخطيط لطريق النضال والمقاومة. أثمرت اللقاءات بعد أشهر قليلة تشكيل تنظيم حمل اسم «جبهة تحرير القنيطرة»، بإشراف مباشر من وزير الدفاع السوري حينئذ الرئيس الراحل حافظ الأسد. أعقبها تشكيل أكثر من تنظيم سرّي بالتنسيق مع دمشق، وقد حملت هذه المقاومة السرّية أثراً عميقاً في حرب تشرين التحريرية، إذ استطاعت خلاياها رصد نشاطات جيش العدو، وزوّدت القيادة السورية بمعلومات مهمّة أثناء الإعداد للحرب.
في حرب تشرين، سطّر الجيش العربي السوري أروع البطولات التي حملت أثراً عميقاً لدى أهالي الجولان. إضافة إلى أنها وَأَدَتْ مشروع الكيان بإقامة دولة درزية، ناهيك عن كونها أخرست أبواق الذين نشطوا لبث الشائعات؛ «الجولان المتروك»، «الجولان المباع»... إلخ.

فرض الهوية
في أواخر السبعينيات، استطاع رجال الحركة الوطنية في الجولان الوصول إلى معلومات تفيد بأن سلطات الاحتلال ستشرع في إصدار قرار ضم الجولان، وفرض الجنسية على أبنائه. وهذا يسجّل للحركة كونها لم تكن فقط تواجه مشاريع ومخططات العدو، بل تقوم بالمتابعة والرصد بشتى الوسائل المتاحة، لتستبق أي مخطط للاحتلال وتقوم بوضع الأسس الممكنة لإفشاله. وعليه، فقد قامت الحركة في 16/1/1979 بعقد اجتماع جماهيري في قرية مجدل شمس لتصعيد الرد.
خرج الاجتماع بالتنبيه والتحذير من خطورة الخطوات التي يريدها الاحتلال، وأرسلت برقيات احتجاجية إلى المؤسسات الدولية، وأخرى إلى حكومة الاحتلال ذاته، تؤكد الرفض القاطع لهذا المخطط، والتحذير من المساس بالانتماء الوطني للجولانيين. وقّع المجتمعون على مذكرة ضمّت 1200 توقيع رافض ومحذّر من عواقب استعمال القوّة، وأن أهالي الجولان لن يقفوا مكتوفي الأيدي. رافق ذلك استمرار تصعيد النضال السياسي الجماهيري بإحياء ذكرى الجلاء من جديد عام 1979، وأرسلوا بياناً حمل تحية للوطن جاء فيه: «من كل بيتٍ عامرٍ أو مهجور، من كل صخرةٍ وحجرٍ وذرّة تراب، من كل حيٍّ وجماد، من ديرتنا الحزينة والمكلومة المفجوعة على فراق الوطن الحبيب، مع كل نسمة هواء ومع نجوم السماء، مع الطيور المتجهة نحوك يا سوريا الحبيبة، نبعث تحية الصمود والإباء بمناسبة عيد الجلاء».
الانسجام والتنسيق السرّي بين الحركة والقيادة في دمشق كان الداعم الأساسي لتحقيق الإنجازات


بدورها، قدّمت حكومة الرئيس حافظ الأسد، بتاريخ 26/2/1981، شكوى إلى الهيئة العامة للأمم المتحدة، ضد تغيير الطابع السكاني في الجولان، وضد إلزام السكّان باستلام الهوية الإسرائيلية، ليعقبها في 25/3/1981 إصدار «الوثيقة الوطنية» من قبل الحركة الوطنية موقعة من وجهاء القرى المحتلة، والتي تضمّنت:
«1- هضبة الجولان المحتلة هي جزء لا يتجزأ من سوريا العربية.
2- الجنسية العربية السورية صفة حقيقية ملازمة لنا لا تزول وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء.
3- أراضينا هي ملكية مقدسة لأبناء مجتمعنا السوريين المحتلين، وكل مواطن تسوّل له نفسه أن يبيع أو يتنازل أو يتخلى عن شبر منها للمحتلين الإسرائيليين يقترف جريمة كبرى بحق مجتمعنا وخيانة وطنية لا تغتفر.
4- لا نعترف بأي قرار تصدره إسرائيل من أجل ضمّنا للكيان الإسرائيلي ونرفض رفضاً قاطعاً قرارات الحكومة الإسرائيلية الهادفة إلى سلبنا شخصيتنا العربية السورية.
5- لا نعترف بشرعية المجالس المحلية والمذهبية، لكونها عُيّنت من قبل الحاكم العسكري الإسرائيلي وتتلقى تعليماتها منه، ورؤساء وأعضاء هذه المجالس لا يمثّلوننا بأي حال من الأحوال.
6- إن الأشخاص الرافضين للاحتلال من خلال مواقفهم الملموسة والذين هم من كل قطاعاتنا الاجتماعية، هم الجديرون والمؤهلون للإفصاح عمّا يختلج في ضمائر ونفوس أبناء مجتمعهم.
7- كل مواطن من هضبة الجولان السورية المحتلة تسوّل له نفسه استبدال جنسيته بالجنسية الإسرائيلية، يسيء إلى كرامتنا العامة وإلى شرفنا الوطني وإلى انتمائنا القومي وديننا وتقاليدنا ويعتبر خائناً لبلادنا.
8- قرارنا لا رجعة فيه، وهو كل من يتجنّس بالجنسية الإسرائيلية، أو يخرج عن مضمون هذه الوثيقة، يكون منبوذاً ومطروداً من ديننا، ومن نسيجنا الاجتماعي، ويحرم التعامل معه، أو مشاركته أفراحه وأتراحه، أو التزاوج معه، إلى أن يقر بذنبه ويرجع عن خطأه، ويطلب السماح من مجتمعه ويستعيد اعتباره وجنسيته الحقيقية.
لقد اعتمدنا هذه الوثيقة مستمدّين العزم من تراثنا الروحي والقومي والإنساني الأصيل، الذي يحضّنا على حفظ الاخوان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والوفاء العميق للوطن».

الضم المشؤوم وإضراب الكرامة
عبر جلسة للكنيست في 14/12/1981، أعلن الاحتلال بدء تطبيق القانون الإسرائيلي على الجولان، ليعلن أبناؤه بدورهم إضراباً عاماً وشاملاً لمدة ثلاثة أيام، في 16 و17 و18 من الشهر ذاته، رفضاً لقرار الضم. وعقد مجلس الأمن جلسة طارئة في 18 كانون الأول بناء على طلب من الحكومة السورية، ليعلن عن قراره الرقم 497، الذي اعتبر القانون الذي اتخذته الحكومة الإسرائيلية لاغياً وباطلاً، ويخالف الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، مطالباً كيان الاحتلال بالتراجع.
في 13/1/1982، اعتبر الرئيس حافظ الأسد أن «الجولان ليست محتلة بقرار سنَّته إسرائيل، ولن يتوقّف تحريرها على عدم وجود قانون تسنّه إسرائيل، لم تأخذ إسرائيل الجولان بقانون، ولن نسترجعه بقانون». هذه التوأمة بين النضال الشعبي لسكان الأرض المحتلة والدولة الأمّ كان لها أثر كبير لمن هم في المواجهة الميدانية. فبعد ذلك، عُقد اجتماع شعبي في خلوة مجدل شمس، أُعلن فيه أنه اعتباراً من تاريخ 14 شباط 1982 فإن أهالي الجولان في حالة «إضراب الكرامة»؛ إضراب عام وشامل حتى تتحقق مطالبهم المتجسدة في «رفض تطبيق القانون المدني الإسرائيلي، ورفض فرض الجنسية الإسرائيلية، واعتبار الجولان منطقة محتلة تنطبق عليها قوانين جنيف، ورفض استبدال الهويات العسكرية بأخرى مدنية، والإفراج عن المعتقلين الإداريين».


في 30 آذار 1982، أصدرت القيادة العسكرية لجيش الاحتلال قراراً بالاستعداد التام للبدء في توزيع الهوية الإسرائيلية، موكلة تنفيذ المهمة لـ 16 ألف جندي إسرائيلي، ليقتحموا في الأوّل من نيسان القرى المحتلة، ويستولوا على مباني المدارس، ويحوّلوها إلى مراكز للتحقيق والاعتقال. في المقابل، أعلن أهالي الجولان «إضراب الهوية والانتماء»، متحدِّين قوات الاحتلال، عبر صدورهم المفتوحة والأيادي والعصي، واشتبكوا مع مئات الجنود في الساحات العامة، وأصوات الأهالي تصدح بـ«الإضراب حتى النصر». وهو ما كان، إذ تعهّدت السلطة المحتلة عدم فرض الجنسية وعدم فرض التجنيد الإجباري، وإقامة الجسور المفتوحة بين الجولان وسوريا، وعدم مصادرة أراضي السكان، وإعطاءهم حقوقهم المائية لري مزروعاتهم.

النضال بوجه «الأسرلة» مستمر... بانتظار التحرير
أرست الـ 15 عاماً (1967 – 1982) قواعد الاشتباك، بالعصيان المدني والغضب الجماهيري والتكاتف الاجتماعي الوطني، وأسست قاعدة صلبة لا يمكن لأحد تجاوزها، ليستمر النضال بأشكاله كلها لتثبيت الانتماء والإنجاز وإفشال أي مخطط جديد للاحتلال. وقد تصاعد النضال السياسي والسرّي في السنوات العشر التي تلت الإضراب، حيث اعتقلت خلايا وتنظيمات مقاومة عديدة، منها حركة المقاومة السرّية عام 1985، وتنظيم حركة الشباب الوطنيين القوميين بداية التسعينيات، علاوة على تصدّي أهالي الجولان لزيارة رئيس وزراء حكومة الاحتلال شمعون بيريز إبّان زيارته للمجلس المحلي في مجدل شمس عام 1986، ليخرج من القرية مع قواته هرباً أمام رفض وغضب المواطنين، إضافة إلى تأسيس الاتحاد النسائي منتصف الثمانينيات (سيّدات الجولان اللاتي كان لهن شراكة حقيقية في معارك الجولان منذ الأيام الأولى للاحتلال).
يثبت كل ذلك أن النضال لم يخفت، بل ازداد صلابة وتمسّكاً بالأرض والانتماء، كما في التصدّي للمحاولات الجديدة لـ«أسرلة» السكان، كمشروع فرض انتخابات المجالس المحلية، الذي أُفشِلَ من جديد أواخر عام 2018، ومطلع عام 2019، إضافة إلى التصدّي لمشاريع اقتصادية للمحتل، كمشروع «المراوح» الذي يهدف إلى القضاء على الزراعة وتهجير أهالي الجولان من حوله.
إنها ملحمة وطنية لـ 13 ألف نسمة رفضوا، عبر إضرابهم ونضالهم، تمرير مخططات الاحتلال تحت شعار «الجوع ولا الركوع» و«المنيّة ولا الهوية». أبناء الجولان يؤمنون بأن هزيمة الـ 67 لم تكن هزيمة الذهنية والعزيمة. لم يطرح الجولانيون أن مواجهتهم حينذاك هدفها تحرير الأرض، وذلك لعددهم القليل مقارنة بالعدو الغاصب ولإمكاناتهم، من جهة، ومن جهة أخرى لاقتناعهم بأن «الدولة الأم سوريا» ستعيد الجولان إلى سيادتها بأي وسيلة ممكنة.
حتى اليوم، لا انتخابات مجالس محلية في القرى المحتلة، وهو التعبير الواضح عن رفض إعطاء الشرعية لأي مؤسسة إسرائيلية. كما أن غالبية سكان الجولان يحملون بطاقة تعريف للشخصية، ولم يقبلوا أخذ الجنسية.
كانت قيادة الحركة الوطنية من رجال دين وزمنيين متساوية في عمق صدق الموقف، وإلا فإن 13 ألف نسمة، بين كهل ورجل وامرأة وأبناءهم وأحفادهم، ما كانوا ليستطيعوا تحقيق أي إنجاز أمام عدو غاشم. من جهة أخرى، فإن الانسجام والتنسيق السرّي بين الحركة والقيادة في دمشق كان الداعم الأساسي لتحقيق الإنجازات الدولية والأممية المبنية على الحق.
* أسير محرر ــــ الجولان