القلق سيّد الموقف. يفلش نصه، يطرح أسئلة «لا ع البال ولا ع الخاطر». لا يمر تفصيل مرتبط بالشخصية التي يكتشفها إلا ويفعل المستحيل كي يحلّله ويعرف كيف يُقارب الوضعية التي يعمل عليها. لا يترك كلمة إلا ليجد الفلسفة المبطّنة وراءها أو لخلق حالة وجودية جديدة تناسب هذه المقولة. يعمل بوتيرة بطيئة، فيشرِّح النص ويستنطقه. في لغة العسكر، يسمّى ذلك تقنية «تشريح النقانق»، إذ تسقط جدران الدفاع الأمامية للوصول شيئاً فشيئاً إلى معقل العدو. يصل طلال الجردي في الوقت المحدّد إلى كل التمارين في المسرح (عدا أنه يعتذر مسبقاً ليلة مباريات الدوري الأوروبي). يدوّن الملاحظات خطياً على نصه، يحاول، يختبر، ليعود ويكد في بيته، عندما يختلي بنفسه، ليتكلم مع الظلام، مع الفراغ، ليزور سراديب مخاوفه وهمومه. جيرانه في الحمرا، قد يظنونه فاقداً صوابه، فهو «يشبّر» بيديه وحده، يصرخ في ساعات متأخرة من الليل، يسمِّع نصه بصوت عال والسيجارة في فمه... لكنهم لم يخطئوا، لأن طلال الجردي ممثل «مش طبيعي».
منذ انطلاق التمارين، يشارك في اللعبة الإخراجية، ليصبح ركيزة لكلّ المخرجين الذين تعامل معهم. كان المخرج جاك ليكوك يسمّي هذا النوع بالممثّلين الخلّاقين، حيث يرمي الممثل نفسه على المسرح، بكل هشاشة إنسانيته، ليكتشف ويختبر على الخشبة، ما أوكل إليه من نصّ مكتوب على ورق ومن رؤية إخراجية.
الفارق أنّ غالبية الممثلين في لبنان «يلعبون» أدواراً، بينما طلال يفكّك الدور قبل أن يؤديه. يرمّمه من جديد، بالتنسيق مع المخرج، وبنظرة مشتركة بينه وبين فريق العمل. الجميل في هذا الفنان أنه يعطي للشخصيات التي يؤديها زملاؤه، حقّها ومساحتها الشرعية في التعبير على الخشبة، ولا يدخل أبداً في استرسال ارتجالي، ما قد يُسيء للعمل وللجوّ العام. «الدراماتورجيا» الشكسبيرية المعقّدة التي ورثها عن أستاذه زياد أبو عبسي (1956 ـــ 2018) لا تتركه، بل أصبحت منجداً يعمل وفقاً لتفسيراته وشيفرته. أصبحت فهرساً يحاكي عبره كل الحالات السيكولوجية المتسلسلة التي يطوّرها ويركبها.
رأيت للمرة الأولى طلال الجردي في مسرحية «عريسين مدري من وين» (مروان نجّار) في الثمانينيات. كان شاباً نشيطاً (ولمّا يزل رغم الكرش الصغير) لكنه مع الحركات الجسمانية والصوتية المبالغ فيها، لم يقع في الابتذال والمبالغة. أعاد التقنية نفسها في «هل هالشي طبيعي؟» (إخراج رياض الشيرازي ــ كتابة خالد صبيح ـــ حالياً في «مترو المدينة»)، إذ حافظ على خطّ الشخصية الدرامي بكل تطوراته، من دون أن يعتمد على كوميديا مجانية شعبوية هدفها فقط إضحاك الصالة أو قطف تصفيق المشاهدين. ففي أنواع كوميدية عدة كـ «الفارس» و«الڤودڤيل» و«الشانسونييه»، يقع الكثير من الممثلين في المبالغة (overacting) ليلعبوا الشخصيات بسطحية، وهنا يكمن الفارق الشاسع بين اللعب والأداء. لا يعتمد طلال على البهلوانيات (التي يتقنها أيضاً) بل ينكش في الدور، يدفعه إلى أقصى الجدية، يتعمّق في أساساته كتاريخه وأسباب معاناته وبيئته الحاضنة، ليخلق حالة معينة ترتسم بهالة يحصّن فيها الدور، كما يحصّن ذاته كممثل.
تعاملت مع طلال الجردي في عملين مسرحيين، كما شاهدته في أعمال عدة. ليس سهلاً التعاطي معه إذا كانت الرؤية الإخراجية بسيطة أو هشّة. فالتمارين معه تقتصر أحياناً على دردشات ونقاشات، تصل إلى الاحتدام... وما أجمل ذلك. أذكر أنّه في مسرحيتي «بتقتل» (2017)، تعامل مرةً أخرى مع برناديت حديب بتناغم وتنسيق، حيث وجد لنفسه طريقة معيّنة في الكلام والتصرّف، مبنية على الوسواس القهري وعلى جنون العظمة، أمام امرأة يحبها ويهابها في آنٍ واحد، تمثّل صورة الأم المهيمنة. وخلال تمارين مسرحية «الشر الأوسط»، عمل مطولاً مع الصديقين عبد الرحمن جاسم وتهاني نصار، على صقل الشخصية، ليس فقط باللهجة الفلسطينية، بل لصياغة طريقة التفكير المنبثقة من عادات وتقاليد وتصرفات نمطيّة تشبه بيئتهما. كل مخرج يتمنى العمل مع فنانين من هذا الطراز، وينبغي لهذا المخرج تركه يغوص ويبحث ويقارن بين لا وعيه الفردي ووضع الشخصية في سياق الجماعة، في الزمان والمكان المناسبين.
يمكن لطلال الجردي أداء دور زير الضيعة كما يمكنه لعب دور المهرج، وبينهما، وفي فهرس المعرفة والحكمة المسرحية، خيط هشّ يتأرجح عليه الممثل. زياد أبو عبسي ترك إرثاً ثميناً، زرع في ممثل واحد هامليت ولايرتيس وفورتنبراس وغلاوسيستر، صقل لنا كنزاً، اسمه طلال الجردي، الممثل «المش طبيعي».

* ‫كاتب وممثل ومخرج لبناني