سيزار كاتالينا (آدم درايفر) مهندس معماري صاحب أفكار ثورية، يريد بناء المدينة العملاقة التي يحمل الفيلم اسمها. مدينة مصنوعة من مادة الـ«الميغالون»، محسّنة، ستمنح البشر تعايشاً مجتمعياً أكثر انسجاماً. يعارضه العمدة فرانكيلن شيشيرو (جيانكارلو إسبوزيتو)، الذي يريد جعل المدينة أكثر جاذبية للسياح، وترك أي ابتكار طوباوي غير مجد بالمعنى التجاري، إلى جانب عائلة المصرفيين الرائدين الذين يمثلهم هاملتون دراسيوس الثالث (جون فويت)، والمريب كلوديو (شيا لابوف). بينما يتصارع المذكوران، يحاول ناش بيرمان (داستن هوفمان)، رؤية مصلحته، تماماً مثل واو بلاتينوم (أودري بلازا)، بينما جوليا (ناتالي إيمانويل)، ابنه شيشيرو، تكنّ «تقديراً» كبيراً لسيزار، ونكتشف أنّهما يشتركان في أكثر من مجرد انجذاب، ما يضعها في موقف حرج مع والدها.
آدم درايفر في الفيلم
في ربط تاريخ روما القديمة بالولايات المتحدة الآن بصفتها أكبر إمبراطورية إمبريالية على الكوكب، يبدأ فيلم «ميغالوبوليس» بالتدفق عبر لقطات تتأرجح بين الخطابية والرمزية والمباشرة. لا توجد عملية صقل ولا غربال يغربل أفكار المخرج ورؤيته السينمائية قبل أن تصل إلى الشاشة، فكوبولا حرّ في كل ما يفعله، فكرياً وسينمائياً، ويظهر على الشاشة كأنه يحدّثك مباشرة. ضجيج وابتذال وارتباك وقبح وجمال وعظمة وفن لا نهاية له، ولا تعرف كم سيستمرّ هذا، وما عليك سوى الاستسلام، وترك عبقري سينمائي يجمع كل شيء في مكانه بشكل مثير للإعجاب. صراع هائل يسبّبه لك كوبولا: جنون وتميّز يتشابك مع السخافة والأخطاء المقصودة، ومشاهد تصل أحياناً إلى مستوى الفكاهة، وتارة أخرى إلى عمق يصعب مضغه. تتحرك كاميرا وشخصيات كوبولا بحرية، كما أنه يقسم الشاشة كما يريد، ويوقف الوقت، ويلعب لعبته مع المتفرجين، حتى إنّه يتجرأ على توقيف الفيلم، ليخرج رجل على المسرح مع ميكروفون ليأخذ من سيزار (الموجود على الشاشة) مقابلة صحافية أمامنا جميعاً (هكذا حدث خلال الفيلم في المهرجان، لا نعرف كيف سيتم ذلك في الصالات لدى عرض الفيلم). طوال الفيلم، هناك رومانسية ومشاجرات واتهامات وتلاوة عبارات شهيرة، وشكسبير، وأزياء رومانية قديمة، وألعاب ومسارح وملاعب رومانية، وتعليقات صوتية من الراوي، وجنس، ومونتاج سريع، وقمر صناعي سوفييتي يقترب من الأرض، وأخبار تلفزيونية. الجميع يصرخ ويلعب ويضحك ويقفز ويتحدث (حتى باللغة اللاتينية)، ومغنّو بوب يقدمون عروضاً حية، وسلسلة من اللحظات الغريبة تضفي على الفيلم إحساساً كأنه سيرك.
لا تتوقع فيلماً تقليدياً. هناك تقلبات في السيناريو قد لا تضيف شيئاً، وهناك عدد كبير من الزخارف والأزياء الممتعة، وترف فنّي لا يستطيع فعله سوى محارب سينمائي قديم. ليس هناك خطوط حمر بالنسبة إلى كوبولا، فهو قادر على تخيّل المستقبل ولو كان مبتذلاً ولونه ذهبي. «ميغالوبوليس» مرادف للبذاخة والخيال وحتى الباروكية في السينما والفن بشكل عام. يصف الفيلم العالم الجمالي والاجتماعي والسياسي الذي يتغلغل في أمة بأكملها، ويظهر التوتر بين الإنسان المعاصر ونواة الماضي، والأحلام المثيرة، والرجولة الكرتونية. مزيج غريب من النقد والعاطفة، وخليط من الذاكرة والأحلام والخيال لرؤى شخصية ذات خصوصية عالية.
لعلّ «ميغالوبوليس» الأكثر خصوصية وجموحاً في سينماتوغرافيا المخرج العظيمة. قد يبدو الفيلم كالألعاب النارية التي لا تتوقف، حيث يصطدم كوبولا بالسماء، بطريقة أكثر اضطراباً وشراهة. نرى الماضي يتكرر في الحاضر وينبئ بالمستقبل، فهو ليس مجرد هجوم على النظام الاجتماعي. إنه محاولة لتأمّل الحياة، واستيعاب السخرية، وعدم الخشية من المواقف واللحظات الغبية، والبحث الدائم عن السعادة والأحلام، والاعتراف باللحظات رغم عدم ديمومتها وبالحياة رغم بلاهتها.
لن نتوقف عن الحديث عن الفيلم لمدة طويلة، ومفتاحه هو الوقت، كما هي الحال دائماً مع أي عمل فني عظيم. ولهذا قد يكون متعالياً جداً، ومتغطرساً، لكنّ «خطاياه» مغفورة لأن كل شيء مباح بالنسبة إلى كوبولا، فهو لا يدين لأحد بشيء. في تاريخ السينما، قلّة هي الأفلام التي تشكل علامة فارقة، وتحمل على أكتافها سلوكاً جديداً مستهجناً لدى بعضهم. «ميغالوبوليس» هو واحد من هذه الأفلام، تركيب بصري فكري فائق التعقيد والعمق. كوبولا على عجل ينتقل من جزء إلى آخر، من مشهد إلى آخر بطريقة سريعة وبقفزات راديكالية، فجاءت النتيجة ضخمة وساحقة، إلى حدّ أن القصة لم تستطع احتواء الصورة، وهذا نادر الحدوث.