عمل أبو حسين حارساً للمقبرة وحفّاراً لقبورها مدة 37 سنة
وضعت سلسلة احتمالات لمكان قبر شقيقتها، ثم استخدمت وعاءً معدنيّاً ليكون نقطة علام تشير إلى الاحتمال الأرجح. في اليوم الثاني بدأت رحلتها في البحث عن قطع الشاهدة وفُتاتها. ظلّت على هذا المنوال سبعة أيام ركّبت في نهايتها اسم شقيقتها، وروته ببعض الماء الذي كانت تحضره معها في ساعات الحرّ الطويلة، وأخيراً قرأت الفاتحة على قبرها. تحاول أم ناجي إقناع نفسها بأن هذا هو قبر أختها حقاً، لكنها في قرارة ذاتها تعجزُ عن تحديد ملامح المكان بعد أن «نامت» القبور بعضها على بعض. يبقى ذلك أخفّ وطأة على روحها من أن تخسر مجدداً مكاناً تلوذ به، بعد أن خسرت منزلها وحيّها وزوجها. تقول «نعم هذا هو قبر أختي»، والخشية تأكلها من مجيء من يأتي ليوقظها ويخبرها بأن القبر ليس لشقيقتها.
توزّع الحاجة الخمسينية حسراتها ما بين منزلها المدمّر وقبر شقيقتها ذي الشاهدة المكسّرة. تتعثّر بجلبابها الأسود تارة، وبالحجارة المتناثرة في المقبرة تارة أخرى. تقول لـ«الأخبار» بأسى «كان الماضي آخر ما نملك، كنّا نسمّيه الزمن الجميل، لكن الحرب لم تترك لنا مستقبلاً ولا حاضراً، وها هي اليوم تقتل الماضي».
لقاء الأحبّة!
في ثالث أيام رحلة الشقاء، التقت الحاجة المُتصابرة بإحدى جاراتها القُدامى. تتقّدم أم ناجي بحذر باتجاه امرأة ترتدي معطفاً رمادياً، وتضع على رأسها قطعة قماش مبلّلة كي تخفّف عنها شيئاً من حرّ الشمس. «عرفتها من صوتها وهي تتلو القرآن»، تقول أم ناجي عن صديقتها القديمة إلهام، التي كانت تقطن على بعد خمسة منازل، على الطريق العام.
تتقدّم أم ناجي نحو إلهام، تعانقها، وتبكيان حوالى عشر دقائق. تتوقّف أم ناجي عن البكاء لكن إلهام تستمرّ وتقول «لم أعثر على قبر ابني، أين سأجده بين كل هذا الركام». توقّف عمر ابنها محمد عند العام الثالث والعشرين، قضى «بظروف الحرب» حسب تعبيرها، لكنها لم تعثر على مكان تضع عليه «فرعاً من نبات الآس» الذي اشتهر بمرافقته للقبور والتوابيت. يتقطّع صوت إلهام أثناء الحديث، ثم تلتقطُ أنفاسها وتقول «لم يبقَ لابني أثر، ولا مكان أقصده بعد اليوم في العيد أو في أيام الجمعة». تشدّ أم ناجي على يد صديقتها، وتجدُ نفسها «محظوظة» بعد أن عثرت على «أثر» تقتفيه كلّما شدّها الشوق إلى أختها «المرحومة».
شاهد حيّ
اعتاد المصوّر الصحافي معتز موعد زيارة «ساحات الموت» في مختلف الجبهات السورية، بحكم عمله مع وكالة الأنباء الرسميّة، إلا أن زيارته هذه المرة كانت إلى «ساحة موت مقتولة» يشهد عليها بعينه قبل عدسته. يقول لـ«الأخبار» باسترسالٍ «غيّبتنا الحرب ست سنوات عن سقاية العروق الخضراء في محيط قبر والدي، وقراءة الفاتحة له عن قرب. دخلت اليوم سيراً على القدمين، أجهل حال الطريق، آثار المعارك أخذت حيّزاً كبيراً من بعض الطرقات. وصلت الباب الرئيسي، ووقفت متأملاً مشهد المقبرة: حالة خراب رهيبة، توحدت القبور تقريباً، كلها بلا شواهد، ومنها ما سوّي بالأرض تماماً، وتم تجميع الشواهد على شكل أكوام لكي تضيع المعالم تماماً. بسطت يدي وقرأت الفاتحة كالعادة على جميع من كان مثواهم الأخير فيها».
يختنق صوت الشاب الثلاثيني لحظات، لكنّه يتحاملُ على نفسه، يغمض عينيه ويقول «بدأتُ السير باتجاه قبر والدي. ثلاث شجرات متوسطة الحجم كنت قد زرعتها بيدي في محيط القبر كانت دليلي إليه. بسبب غيابي الطويل عنه تداخلت الأغصان بعضها ببعض فوق القبر. بدأت محاولة تذكر أصحاب القبور المحيطة: عمي وعمتي وجدي وغيرهم... اهتديتُ إلى بعضها، لكنني فشلت في معرفة الباقي».
حارس الذاكرة
يتجمّع العشرات حول العم أبو حسين، حارس مقبرة مخيم اليرموك سابقاً، وينهالون عليه بالأسئلة عن قبر فلان وفلان. يحاول أبو حسين (55 عاماً) أن يتذكّر معهم أماكن القبور ويُرشدهم إليها. الكل يبحث عن قبر ذويه، والأصوات تعلو في حوارات متداخله، يحاول من خلالها الحاضرون مساعدة بعضهم بعضاً: «خلف بركة الماء، قرب عمود إنارة، عند الشجرة المحروقة... إلخ» هي الجمل التي كانت تسمع في محاولات استذكار نقاط علّام للاستدلال، منهم من وصل، ومنهم من لم يصل إلى مبتغاه.
بحسرة كبيرة يشرح أبو حسين شيئاً من تاريخ المقبرة «هناك عشرات من شهداء ورموز الثورة الفلسطينية كانوا يرقدون هنا. هناك شهداء من تونس والمغرب ومن فلسطين ومن كل البلدان العربية. هذه المقبرة كانت تشهد على قتالهم وارتقائهم، واليوم ذهبت آخر أدلّة الثورة الفلسطينية في مخيم اليرموك». عمل أبو حسين حارساً للمقبرة وحفّاراً لقبورها مدة زادت على 37 سنة، لكنّه يُعاين المقبرة اليوم مذهولاً من هول المشهد. يمسح التراب عن وجهه ويقول «هنا كل حكاية الثورة الفلسطينية... كل تاريخ على شاهدة قبر هو حكاية وقصة، كنتُ أحرسها وكأنّني أحرسُ ذاكرة حكاية الثورة».
حياة من موت!
طبع بعض «المحظوظين» الذين تعرّفوا إلى أماكن موتاهم أوراقاً بيضاء، كتبوا عليها أسماء الراقدين تحتها، ولا يزال معظم الحاضرين تائهين في رحلة اللغز المستحيلة. يعودُ معتز إلى منزله المؤقت في دمشق، يُعاين ما صوّرته عدسته. «كل صورة بغصّة... هذه الحرب أفقدت الموت هيبته». يصمت لحظات، ويضيف «مئات من أهل اليرموك أصرّوا على الوصول إلى المقبرة قبل الذهاب إلى منازلهم، ثمّة شيء في دواخلنا يقول إن الحياة تبدأ من الموت».