إن أول استنتاج يمكن للمتابع أن يصل إليه هو أن أميركا قررت حسم ملف «الحشد» بطريقتها الخاصة، والتخلص من هذا العائق الذي يربك إدارتها للملف العراقي الداخلي، بما يجعل تبعية العراق لها ترتقي إلى درجة الاحتلال والإدارة المباشرة، وإنهاء حالة ما سُمّي «التوافق الأميركي الإيراني» حوله. أما إسرائيل، وبعدما لمست ضعف وبؤس ردّ الفعل العراقي، و«الحشدي» تحديداً، على عربدتها، فيبدو واضحاً أنها قررت التمادي في ذلك، لتكون لاعباً في الميدان العراقي، حتى لو كانت ضرباتها قليلة المردود عسكرياً، وسُتسجَّل بالدرجة الأولى في الحساب الانتخابي لبنيامين نتنياهو المأزوم. الاستنتاج الثاني والمهم، في ما يتعلق بـ«الحشد»، هو أن هذه المؤسسة، التي بدأت كهبّة شعبية تطوعية، وعلى رغم إلحاقها أخيراً بالمؤسسة العسكرية الحكومية وتغيير بنيتها التنظيمية، لا تزال هدفاً لأميركا من الدرجة الأولى، بعد مساهمتها الفعالة والرئيسة في الانتصار على التمرد التكفيري «الداعشي». غير أن واقع الحال يقول إن «الحشد» قد نفّذ على أفضل وجه المهمة التي نشأ من أجلها، وإن حلّه أو تبديده في المؤسسة العسكرية الرسمية لا يعني الكثير على أرض الواقع. فهو كمبادرة شعبية أفرزها الواقع العراقي قابلة للولادة من جديد، وبزخم وقوة أشدّ في أي ظرف استثنائي جديد ينشأ في العراق. وعلى هذا، فإن «الحشد» يمكن اعتباره ظاهرة شعبية قامت بمهمتها وانتصرت، وانتهت بانتهاء هذه المهمة عملياً، ولن يستفيد المحتل الأميركي وحليفه الإسرائيلي كثيراً من ضربه وحلّه نهائياً، لأنه ليس موجوداً في المعسكرات الحكومية المعرّضة للقصف، بل في النسيج الاجتماعي والإرادة الشعبية العراقية المضمرة، ويمكن لهذه الظاهرة أن تتجدد وبسرعة في أي ظرف مشابه للظرف الذي أوجدها. أما مؤسسة «الحشد» حالياً فهي ليست إلا هيكلاً من المراتب والأجهزة، وقد تحوّلت فعلياً إلى ورقة سياسية بيد الأحزاب والقوى والشخصيات السياسية والدينية المتصارعة والمتنافسة، والتي تحاول الاستفادة منها في صراعاتها البينية بعد مرحلة القضاء على «داعش». وهذا أمر لم يعد سراً، وقد أشارت إليه «المرجعية الشيعية العليا» في كلمة المرجع علي السيستاني، والتي وجّهها بمناسبة ذكرى ما سُمي «صدور فتوى الجهاد الكفائي».
يمثل «الحشد» هدفاً أول لأميركا بعد مساهمته الفعالة في الانتصار
غير أن الأمر الذي يكتسب أهمية قصوى، ويحمل دلالة مباشرة، هو سكوت القوى والأحزاب الإسلامية الشيعية، التي لهجت طويلاً بخطاب امتداحي لـ«الحشد»، حتى بلغ الأمر ببعضها حدّ تقديسه، فصارت تسمّيه في أدبياتها «الحشد الشعبي المقدس»، على هذا الاستهداف الصهيو ــــ أميركي. حتى الآن، لم يصدر رد فعل من هذه الجهات يكافئ خطورة العربدة الإسرائيلية والتواطؤ الأميركي معها. فتحالف مقتدى الصدر، «سائرون»، وتحالف «البناء» ــــ باستثناء «حركة عصائب أهل الحق» التي انفردت بالدعوى إلى تقديم شكوى لمجلس الأمن وعقد جلسة طارئة للبرلمان العراقي ــــ، وغالبية القوى السياسية الإسلامية الشيعية خارج هذين التحالفين، التزمت الصمت التام، ومثلها القوى السياسية الكردية وتلك التي تمثل العرب السنّة. وإذا كان من السهل تفسير الصمت الكردي والعربي السني بأسباب الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي الضمان لاستمرار تمتعها بامتيازات ما بعد الاحتلال، والحدّ من نفوذ خصومها ومن يساندهم، أي إيران، فإن من الصعب تفسير صمت الأحزاب والقوى الشيعية، وخصوصاً تلك القريبة من إيران، كمكونات تحالف «البناء». أما سكوت تحالف «سائرون» فهو لا يعني في النهاية سوى تحبيذه خيار زوال أو تهميش «الحشد»، الذي ليس له فيه «حصة» من قياداته ومراتبه.
إن هذا الواقع السياسي العراقي المعقّد، وشديد التحلّل والتداخل، هو الذي يفسر لنا بؤس ردود الفعل الرسمية على تفاقم العربدة والعدوان الإسرائيلي ــــ الأميركي، وتشبّثها بمقولة «رفض سياسة المحاور والحرب بالوكالة»، قافزة على حالة الاعتداءات التي تُشنّ على العراق، وهذا ما يفتح الباب واسعاً على احتمالات أشد خطورة مما حدث حتى الآن. أما ردود الفعل الشعبية وغير الرسمية فلم تتبلور بعد، لكنها إلى الآن شديدة الاختلاف، وتتراوح بين مرحّب بأي ضربة تُوجّه لـ«الحشد» وللنظام طالما أنها تنال من إيران وتحدّ من نفوذها (أصحاب وجهة النظر هذه يمثلون طيفاً واسعاً، بدءاً من «سائرون»، مروراً بعملاء إسرائيل الصرحاء المقيمين في «إقليم كردستان» شمال العراق كالنائب السابق مثال الآلوسي، وليس انتهاءً بقوى تقليدية خسرت مواقعها في النظام كآل النجيفي وغيرهم)، وبين رافض لهذا العدوان من منطلقات وطنية واستقلالية، وداعٍ إلى الرد عليه بقوة تكافئ خطورته، من خلال الأخذ بخيار إلغاء «معاهدة الإطار الاستراتيجي» مع واشنطن عن طريق جلسة طارئة لمجلس النواب، وطرد قواتها العسكرية من العراق، والتصدي للعدوان الإسرائيلي. هؤلاء لا يمثلون قوة وازنة لها كيانها في المشهد السياسي العراقي حالياً، أما ما قد يصبحون عليه مستقبلاً فأمر تُحدّده تطورات الواقع على الأرض.
هل سيفلح الأميركيون وحلفاؤهم المحليون في أحزاب الطوائف والقوميات في لملمة الموضوع والعودة إلى لعبة عضّ الأصابع التقليدية واقتسام غنائم الفساد ليستمرّ الوضع المتفسّخ ذاته في دولة المكونات التابعة للأجنبي؟ أم أنه سيدخل منعطفاً جديداً يؤدي إلى تغيرات جوهرية في الوضع العراقي؟ سؤال ليس من السهل الإجابة عنه في ضوء المعادلات السائدة.
*كاتب عراقي