في العاشر من كانون الثاني/يناير الجاري، زار وفد مغربي إسرائيل للمشاركة في مؤتمر «الصداقة اليهودية ــ المغربية»، ما أثار جدلاً حاداً واستنكاراً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي. وتأتي هذه المشاركة المثيرة للجدل بعد بضعة أسابيع فقط من زيارة وفد من الإعلاميين والأساتذة المغربيين إسرائيل في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تلبية لدعوة وزارة الخارجية الإسرائيلية.
وبالرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية الرسمية، ظاهرياً على الأقل، بين الرباط وتل أبيب منذ عام 2000، ما زال الكثير من الالتباس يدور حول العلاقة بين الطرفين. فمنذ عام 2011، ظهرت سلسلة من الوقائع التي تؤكد أنه خلف كل هذا الغموض الذي تفرضه الضرورات السياسية، تدور علاقة ثابتة ومستقرة بين الأسرة الملكية المغربية وإسرائيل، وهي قائمة على مصالح تجارية وسياسية مشتركة وتبادل ثقافي، كما أنه يمكن فهم أسس هذه العلاقة عبر النظر إلى الظروف التاريخية لنشأة النظام المغربي الحاكم.

إبّان الانتفاضة الثانية
ازدادت العلاقات سريّةً
ولكنها لم تنقطع البتة

عند إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط إثر اندلاع الانتفاضة الثانية، ازدادت العلاقة بين المغرب وإسرائيل سرية ولكنها لم تنقطع البتة. فالتبادل التجاري بين الطرفين حقيقة لا يمكن إنكارها، وقد بلغت قيمته «52.3 مليون دولار في فترة 18 شهراً» بين عامي 2014 و2015، بحسب دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية. فضلاً عن ذلك، أُزيل في السنوات الأخيرة بعض الغموض الذي أحاط بهذه العلاقة بعد نشر تسريبات «ويكيليكس» عن اللقاءات المعقودة، خصوصاً في عام 2009، بين وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان ونظيره المغربي الطيب الفاسي الفهري. ويُضاف إلى سلسلة الفضائح السياسية التي طالت الأسرة الملكية المغربية التحقيق الذي نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية في عام 2015 والذي يكشف التعاون الوثيق بين أجهزة الاستخبارات المغربية والموساد الإسرائيلي في قضية اغتيال المعارض اليساري المغربي التاريخي المهدي بن بركة. وبعد عام من ذلك، أدلى مسؤول سابق في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بمعلومات جديدة أحرجت النظام المغربي وكان لها وقع كبير في المملكة، إذ كشف عن الدور المحوري للملك الحسن الثاني في هزيمة العرب في عام 1967. إذاً، وبالرغم من البرودة التي شابت العلاقة بين الطرفين لمدة من الزمن، لم يزُل يوماً تقاطع المصالح بينهما. فلهذه العلاقة جذور تاريخية متينة وهي وليدة أزمة الشرعية التي واجهها النظام الملكي المغربي عندما أراد السير عكس التطورات الإقليمية.
العدو السياسي المشترك
تاريخياً، اعتمد النظام الملكي على استراتيجية مزدوجة لضمان بقائه، عمادها إضعاف حزب «الاستقلال» الوطني القوي، وبناء شرعية مبنية على سردية الاستقلال أمام الشعب المغربي. وقد منحت فرنسا، بطريقة ما، النظام الملكي فرصة لتحقيق ذلك. فقد سمح نفي السلطات الفرنسية للملك محمد الخامس في عام 1953 بتوحيد المغربيين حول شخصه وبتعزيز موقع النظام الملكي سياسياً في مواجهة باقي القوى المغربية. إلا أن تتويج الملك محمد الخامس بعد الاستقلال في عام 1956 لم يضع حداً للصراع نحو السلطة الذي استمر بين النظام الملكي والحركة الوطنية المغربية والذي بلغ ذروته مع اغتيال المهدي بن بركة في عام 1965. فقد أنتجت هذه الأحداث وضعاً سياسياً هشاً خلال ولاية الملك محمد الخامس ومن ثم ابنه الحسن الثاني، الذي ورث الاضطرابات الاجتماعية والسياسية نفسها. ونطراً إلى الخطر الناجم عن انعدام الاستقرار في البلاد، بذل الملك الحسن الثاني، الذي نجا من محاولتي انقلاب في عامي 1971 و1972، أقصى جهوده لتثبيت سلطة النظام. وقد شكّل احتلال الصحراء الغربية المتنازع عليها مع الجزائر في عام 1975 فرصة تاريخية لعزل المعارضة السياسية الجذرية التي تعرضت لعمليات قمع شرسة. ويمكن لغياب الاستقرار السياسي المستمر هذا أن يفسّر دوافع التقارب الإسرائيلي-المغربي. فلتحصين حكمه من أزمة داخلية جديدة، بدأ الملك الحسن الثاني، صاحب النظرة السياسية الإقليمية الأقرب إلى إسرائيل منها إلى الأنظمة العربية المسماة تقدمية، بالتقرب من إسرائيل منذ عام 1961، أي تاريخ توقيعه اتفاقات سرية مع الموساد. ومنذ ذلك الحين، استجابت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بحماسة إلى استجداءات النظام المغربي، خصوصاً في قضية اغتيال بن بركة في عام 1965. وبالتالي، وبناءً على ضرورات الأمن القومي والرغبة في إضعاف الأنظمة القومية العربية كما في الجزائر ومصر، اتضحت معالم استراتيجية الحسن الثاني، الذي أقام علاقات مع إسرائيل لمحاربة العدو الداخلي وإضعاف العدو الخارجي. وبعد البدء بمبادرات دبلوماسية محدودة وسرية، ضاعف الحسن الثاني المساعي الرسمية نحو السلام مع إسرائيل بدءاً من عام 1985 (تاريخ دعوته شيمون بيريس لزيارة المغرب). ولترسيخ هذا التقارب، صمّم الحسن الثاني علاقة مباشرة ومميزة عبر إنشاء جهاز دبلوماسي في عام 1994 له فروع في كل من الرباط وتل أبيب.
كذلك، ساهمت العلاقات المهمة بين المغاربة اليهود والإسرائيليين ذوي الأصول المغربية بتعزيز الروابط بين الطرفين. فقد تبين في دراسة أجرتها الوزارة المكلفة بالمغاربة المقيمين في الخارج وشؤون الهجرة أن ثاني أكبر جالية مغربية في الخارج هي في إسرائيل وهي تضم 800 ألف شخص. إضافة إلى ذلك، في مقال عنوانه «تمظهرات الهوية المغربية في إسرائيل: نموذج عن الهوية الإسرائيلية لدى الجاليات»، تحلل الكاتبة إيمانويلا تريفيسان-سيمي الروابط الوثيقة بين المجتمَعَيْن وتلاحظ أن الإسرائيليين من أصول مغربية «لا يكتفون بالحفاظ على ذاكرة فردية وعائلية لوطنهم الأم في فضاءات منازلهم وحياتهم الخاصة فحسب (الطهو والموسيقى والكتابات والأشياء وصور ملوك المغرب على الجدران، بما في ذلك الملك الحالي، واللهجة العربية المغربية)، بل إنهم أدخلوا على الفضاء الإسرائيلي العام رموزاً تقليديةً عن السلطة المغربية». ولعلّ الشخصية الأكثر تعبيراً عن المجتمع اليهودي المغربي هي أندريه أزولاي، مستشار الملكَيْن الحسن الثاني ومحمد السادس على التوالي. فإضافة إلى دوره في تحرير اقتصاد المغرب، يعتبر مراقبون أنه لعب دوراً محورياً في تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية، وخصوصاً المغرب. ولكن لا بد من القول في الختام إنه إذا كانت لدى إسرائيل رغبة شديدة في تحقيق هذا التطبيع السري والمتواصل للعلاقات، فإن المجتمع المغربي، من جهته، يعارضها بشدّة. لذا، قد يواجه النظام الملكي عاجلاً أم آجلاً خياراً صعباً، بين الاستجابة إلى ردود الفعل الشعبية التي تعارض هذا التطبيع المقنّع أو مواصلة سياسة الانفتاح على إسرائيل.