لو أن الخبر صدر عن شخص لم يحضر الاجتماع لكان أقرب الى الهلوسة. لو أن الخبر صدر عن شخص لديه حقد على وزير المال محمد الصفدي لكان أقرب الى الشائعة، لكن أن يصدر الخبر عن رئيس نقابة منشئي وتجّار الأبنية إيلي صوما، المعني مباشرة بالموضوع، فهو ما لا يمكن اعتباره سوى مهزلة. مهزلة في بلد يتواطؤ فيه وزير المال العام مع التاجر على المواطنين كلهم. تواطؤ لا يرضي التاجر ولا يؤرق الوزير، لكنه يزيد هموم شباب لبنان وفقرائه. فلنقرأ الخبر بعناية تامة، والكلام لصوما: «لقد عقدنا اجتماعاً مع الوزير الصفدي، أبلغَنا فيه أن الحكومة تتجه نحو إقرار ضريبة على التحسين العقاري بين 20 و 25 في المئة عام 2013. وبالتالي ضمن الوزير بنداً في موازنة 2012 يجيز إجراء إعادة تقويم استثنائية للأصول (العقارية) الثابتة بمعدل 6%. وطلب الوزير أن نسرع في عمليات اعادة تقويم أصولنا العقارية لكي لا تشمل ضريبة التحسين العقاري مجمل أصولنا، وبالتالي ندفع 6 في المئة على أرباحنا من إعادة التقويم، بدلاً من أن ندفع 25 في المئة على الأرباح المتأتية على أساس تقويم أصولنا على الأسعار السابقة».
فلنفصل الخبر قليلاً. وزير المال، وهو بهذه الصفة يجب أن يتخلّى عن كونه تاجر عقارات أو سمساراً، عليه واجب وضع الخطط لتحسين إيرادات الدولة وزيادتها بطرق عادلة (المفترض)، ينصح المضاربين العقاريين والتجار بالإفادة من عرضه المعمول به لسنة واحدة واستثنائية لكي يهربوا من دفع ضرائب كبيرة للدولة. ضرائب هي حق للدولة وللمواطنين اللبنانيين، لقاء ما يعانون عند البحث عن سكن بسعر يناسب قدرتهم الشرائية.
فلنفصل الخبر أكثر. ربما نفهم ماذا يجول في رأس الرجل. وزير المال محمد الصفدي يدعو التجار العقاريين الى إعادة تقويم أصولهم عام 2012، استباقاً لضريبة ستفرض عليهم عام 2013، هي ضريبة التحسين العقاري، أي يدعوهم الى التهرّب من موجبات الضريبة التي ستكون بنسبة تراوح بين 20 الى 25 في المئة.
فلنطبق ما سيحدث على شركة عقارية نسمّيها «أ».
الشركة «أ» تملك عقاراً مساحته متر واحد، وهي سجّلت قيمة المتر في ميزانيتها بـ3 دولارات. وبسبب العوامل الكثيرة ارتفع السعر الى 100 دولار. فاذا فرضت الدولة ضريبة التحسين العقاري بنسبة 25 في المئة عام 2013، وباعت الشركة «أ» المتر الواحد بـسعر 150 دولاراً، فهي ستضطر إلى دفع ضريبة على ربحها المقدّر بنحو 147دولاراً، أي إن الضريبة ستكون بقيمة 36.75 دولاراً.
ما الذي ينوي الوزير الصفدي فعله لكي يتسنّى للشركة «أ» التهرّب من هذه الضريبة المقبلة.
أدرج الوزير الصفدي في مشروع قانون موازنة عام 2012 نصاً (المادة 33) يجيز للأشخاص الحقيقيين والمعنويين (لمرّة واحدة) إجراء إعادة تقويم استثنائية لأصولهم الثابتة العقارية وغير العقارية بحجّة تصحيح أثر التضخّم، على أن تخضع الفروق الإيجابية الناتجة عن عملية إعادة التقويم لضريبة نسبية بمعدّل 6% فقط، بدلاً من المعدّل الحالي المركّب الذي يصيب هذه الفروق بنحو 23%.
انطلاقاً من هذا النص ستقوم الشركة «أ» بإعادة تقويم سعر المتر لديها ليصبح مسجّلاً بـ100 دولار بدلاً من 3 دولارات، وستسدد ضريبة بمعدّل 6% على إعادة التقويم، أي ما قيمته نحو 5.82 دولارات فقط، وهكذا في عام 2013 ستبيع الشركة «أ» المتر بـ 150 دولاراً مثلاً. وبالتالي ستترتب عليها ضريبة تحسين عقاري على الفرق بين السعر المسجّل (100 دولار) وسعر المبيع (150 دولاراً)، أي إن الأرباح المصرّح عنها ستكون 50 دولاراً فقط، وعندها ستسدد الضريبة الجديدة البالغة 25 في المئة على الربح المصرّح عنه، أي 12 دولاراً.
وهكذا، تكون الشركة «أ» قد سددت ضريبة اعادة تقويم بنسبة 6% (5.82 دولارات) ثم سددت ضريبة التحسين العقاري بنسبة 25% (12.5 دولاراً)، أي ما مجموعه 18.32 دولاراً، بدلاً من أن تسدد 36.75 دولاراً إذا طُبّقت ضريبة التحسين العقاري من دون استباقها بخفض ضريبي مكشوف على عمليات اعادة تقويم مخزون الشركات من العقارات غير المبيعة، وعلى هذا الأساس يكون وزير المال في الدولة اللبنانية قد تواطأ مع الشركة (أ) للتهرّب من تسديد 18.43 دولاراً مستحقة عليها لمصلحة الخزينة العامّة، أي إنه عملياً أعطاها مسبقاً نصف هذه الضريبة لكي تعظّم أرباحها على حساب الدولة والمواطنين.
والأسوأ، أن وزير المال ثبّت من خلال إعادة التقويم هذه أسعار العقارات على مستويات مرتفعة وفق تقويم عام 2010، وذلك بهدف إلغاء أي مفاعيل إيجابية لضريبة التحسين العقاري، الهادفة الى لجم أسعار العقارات واعادة توزيع الثروة لمصلحة الأجور والإنتاج على حساب الريوع. فلو فرض الوزير الصفدي ضريبة التحسين من دون إجراء اعادة للتقويم، لكان التاجر والمصرف والشركات العقارية وغيرها قد اضطروا جميعاً الى خفض اسعار عقاراتهم التي رفعوها اصطناعياً، وذلك لكي يخفضوا عبء الضرائب التي سيدفعونها. أو بالأحرى سيقوم هؤلاء بعقلنة الأسعار العقارية، بما أن أسعار العقارات أصبحت تفوق قدرة البلاد على تحمّلها.
بعدما فهمنا ما يدور في خلد الصفدي، لا بد من توضيح أمر أساسي. كلام صوما عن اجتماعه مع وزير المال لم يأت بصيغة الدعم، إذ إن التجار العقاريين يرفضون رفضاً قاطعاً اعادة التقويم، وكذلك ضريبة التحسين العقاري. ما يدل على أن التجار يرفضون حتى المساومة على اقتطاع جزء من أرباحهم الضخمة لمصلحة الخزينة، إذ يلفت صوما في حديث مع «الأخبار» إلى أن إعادة تقويم الأصول عام 2012 بمعدل 6 في المئة مرفوضة بالمطلق، كما أن ضريبة التحسين العقاري مرفوضة كذلك، وهي «تضرب القطاع العقاري الذي يعد من أنشط القطاعات الاقتصادية الى جانب المصارف».
ويلفت صوما الى أنه أُلفت لجنة تنسيق تجمع نقابة منشئي وتجار الأبنية ووزير المال لمتابعة هذه الإجراءات، إذ سيقترح صوما على الصفدي الابتعاد بضرائبه عن العقارات. يعدد صوما الكثير من الاقتراحات التي سيعرضها على الصفدي. يقول إنه سيخرج بمؤتمر صحافي لرفض اقتراح اعادة التقويم ومن بعده ضريبة التحسين. موقف صوما مفهوم، فهو تاجر عقارات ويكره أن يخسر من أرباحه ليستفيد المجتمع، ما هو غير مفهوم أن يتواطأ وزير المال معه ويؤلف لجنة مشتركة لصياغة آليات أسهل للتهرّب من دفع الضرائب المحقة للدولة.



7 مليارات دولار

هي قيمة الأرباح العقارية المقدّرة في عام 2009، وهذه الأرباح لا تخضع لأي ضريبة من أي نوع، في حين أن مصنعاً يشغّل أيدي عاملة لبنانية ويصدّر سلعاً الى الخارج ويتحمل مخاطر عالية من دون أي دعم من الدولة يسدد ضريبة على أرباحه تصل الى 15%



نموذج من بيانات الوزارات

نسمع دائماً عن لقاء حصل بين جهة معينة ووزير ما. بعد اللقاء يصدر المكتب الإعلامي للوزير بياناً حول ما يجري تداوله خلف الكواليس في الوزارات. إلا أن ما حدث بين الوزير محمد الصفدي وتجار الأبنية يوضح كيف يتم إخفاء بعض التفاصيل التي تكون هي محور اللقاء. فبعد اللقاء الذي تضمن نصيحة الصفدي بالتهرّب الضريبي، صدر عن المكتب الإعلامي للوزير البيان الآتي «استقبل وزير المال محمد الصفدي في مكتبه بالوزارة وفداً من جمعية تجار ومنشئي الأبنية، برئاسة إيلي صوما، وبحث معه في مواضيع تتعلق بالقطاع، وخصوصاً ما لحظه مشروع قانون موازنة 2012».