أدخلت الولايات المتحدة نفسها في مأزق لا تعلم إلى الآن كيفية الخروج منه من دون تبعات: فهي ترفض، من جهة، الاستجابة لمطالب حركة «أنصار الله» الناتجة من موازين قوى مائلةٍ إلى صالح الأخيرة ثبّتتْها سبع سنوات من الحرب؛ ومن جهة أخرى، لا تبدو راغبةً ولا قادرةً على استئناف العمليات العسكرية من أجل نسف تلك الموازين أو الحدّ من فاعليتها. وما بين هذا وذاك، استطابت واشنطن، على ما يبدو، «الستاتيكو» الذي أرستْه هدنة الأشهر الستّة، واجدةً في ذلك ما يلائم مصالحها، غير أن ما ينغّص عليها هذا الاستقرار، هو التهديدات التي لا تفتأ تُطلقها قيادة صنعاء بإمكانية العودة إلى التصعيد، والذي قد يمتدّ هذه المرّة إلى البحر الأحمر وباب المندب عبر استهداف السفن التي تشارك في محاصَرة اليمن. والظاهر أن تصاعُد التهديدات المُشار إليها، هو الذي يقف خلْف عدول الكونغرس الأميركي عن طرْح مشروع قرار بشأن «سلطات الحرب». وفي هذا السياق، ترجّح أوساط ديبلوماسية مطّلعة أن تكون فرملة اندفاعة بعض نوّاب الكونغرس نحو العمل على وقْف الدعم الأميركي للتحالف السعودي - الإماراتي في اليمن، قد جاءت في سياق إفساح المجال أمام استكشاف كيفية التعامل مع تهديدات قيادة صنعاء، أو على الأقلّ منْع تفسير تلك الاندفاعة بشكل خاطئ في الشرق الأوسط، سواءً من قِبَل الحلفاء التقليديين (السعودية والإمارات) أو من قِبَل «أنصار الله». وكانت الولايات المتحدة شهدت جدلاً بين إدارة الرئيس جو بايدن من جهة، والسيناتور بيرني ساندرز من جهة أخرى، حول مشروع قرار «سلطات الحرب»، انتهى إلى قيام ساندرز بسحْب المشروع يوم الثلاثاء الماضي، وتعهُّده بالعمل مع البيت الأبيض على صياغة «حلّ وسط». ويطالب المقترَح المذكور بإنهاء الدعم الأميركي لعمليات «التحالف» في اليمن، بما فيه المعلومات الاستخبارية، والمساعدات اللوجستية، وقِطع الغيار وأعمال الصيانة، إضافةً إلى منْع الأميركيين من الانخراط في أعمال قيادة أو تنسيق أو مساهمة أو مرافقة من دون تفويض مسبق ومحدَّد من قِبَل الكونغرس. وبحسب موقع «ذا إنترسبت»، فإن معارضة البيت الأبيض لذلك القرار، تمثّل تحدّياً دستورياً كبيراً أمام الكونغرس، في الوقت نفسه الذي تشكّل فيه «هدية» لوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، قد تُشجّعه على مُواصلة حَربه.
منذ عامَين، تُكرّر الإدارة الأميركية الحديث عن نيّتها إنهاء الحرب في اليمن


ويأتي تأخير البتّ في المقترَح، بعدما صعّدت صنعاء تهديداتها لـ«التحالف» ورُعاته، مؤكّدةً، على لسان وزير دفاع حكومتها، محمد ناصر العاطفي، أن «مضيق باب المندب وخليج عدن والبحر العربي والامتداد الإقليمي لأرخبيل سقطرى والجزر كافة، أرض يمنية سيادتنا عليها كاملة». وأشار العاطفي إلى أن قوّاته «اتّخذت كل الإجراءات التي تضْمن التعامل بقوّة وحزم مع أيّ تطوّر يمثّل تهديداً أو مساساً بالسيادة الوطنية أو اقتراباً من السيادة البحرية»، ملوّحاً بـ«خيارات تأديبية سيتمّ اتّخاذها والإعلان عنها في الوقت المناسب... لأنّنا قدّمنا كلّ السبل للوصول إلى نهاية إيجابية، لكن العدو يأبى إلّا أن يسير عكْس التيّار، وقد أُعذر مَن أَنذر». ويأتي ذلك في وقت بات فيه واضحاً أن إنهاء الحرب في اليمن وإحلال السلام فيه ليسا على أجندة الولايات المتحدة، التي تتطلّع إلى إدارة الصراع والاستثمار فيه، فحسب. ومن هنا، جاء سعيها إلى إفشال المفاوضات السرّية بين الجانبَين اليمني والسعودي في كلّ من صنعاء ومسقط في الأسابيع الماضية، والتي كان رئيس «المجلس السياسي الأعلى»، مهدي مشاط، واضحاً في تحميل واشنطن مسؤولية عرقلتها.
ومنذ عامَين، تُكرّر الإدارة الأميركية الحديث عن نيّتها إنهاء الحرب في اليمن، فيما ذهب رئيسها بعيداً، منذ وصوله إلى البيت الأبيض، في التعهّد بالانسحاب من هذه الحرب، والعمل على وضْع حدّ لها. إلّا أنه خلال عام كامل من المفاوضات، ظلّ المبعوث الأميركي، تيم ليندركينغ، يحاول بصورة أو بأخرى فرْض الاستسلام على صنعاء، طارحاً شروطاً مُجحفة وخطوطاً حمراء، مؤدّاها حرمان اليمن من الاستفادة من ثرواته، وخصوصاً النفطية منها. وحتى عندما اضطرّت واشنطن لقبول الهدنة تحت وطأة تبعات الحرب الروسية - الأوكرانية، وحمَلها ذلك على ممارسة ضغوط على حليفتها الرياض، وصلت إلى حدّ سحْب منظومات الدفاع الجوّي من السعودية، وإبقاء سماء المملكة مكشوفة، فإنها حافظت على منهج المراوغة نفسه. ويرى بعض المراقبين الخليجيين أن الولايات المتحدة تعمل على إدامة الصراع، من أجل إبقائه ورقة ابتزاز في وجه ابن سلمان، مستدلّين على ما تَقدّم بتصريح لليندركينغ قال فيه إنه لا يمكن لبلاده أن تسمح لأيّ طرف بالاعتقاد بأن هناك حلّاً عسكرياً للأزمة اليمنية. واعتمدت واشنطن، طوال سنين الحرب، سياسة الغموض في شأن حجم مشاركتها العسكرية في الحرب، وإنْ كانت في الغالب تقلّل من تأثيرها، وتزْعم اقتصارها على توجيه القوات السعودية بتحييد المدنيين من الاستهداف. إلّا أن الصراع الداخلي الأميركي بين الحزبَين الديموقراطي والجمهوري، أسهمَ بشكل كبير في إماطة اللثام عن عُمق تلك المشاركة وفاعليتها، وآخر وجوهها تزويد الرياض وأبو ظبي بأحدث التكنولوجيات لصدّ هجوم صنعاء على مديرية الوادي في محافظة مأرب، وبالتالي حرمان الأخيرة من الاستفادة من الحقول والمنشآت النفطية هناك.