بعدما دأبت، طيلة ستّ سنوات منذ نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، على التفرّج على معاناة موظّفي الدولة في اليمن، من دون أن تُحرّك ساكناً، بل ومع تزكية للاستمرار في استخدام هذه الورقة في وجه «أنصار الله»، تحوّلت الولايات المتحدة، فجأة، إلى حاملةِ لواء صرف الرواتب المستحَقّة لهؤلاء الموظفين، في ما لا يمكن إرجاعه، شأنه شأن بقيّة محدّدات الموقف الأميركي المتحوّل في الملفّ اليمني، إلا إلى الظروف الدولية المتغيرة، والتي تفرض على واشنطن إحناء رأسها للعاصفة، من دون أن تُفارق، هي وحلفاؤها، إلى الآن، محاولاتهم التحايل على التفاهمات المطلوبة. وإذ تُدرك صنعاء حراجة الموقف الأميركي، فهي تريد استثماره إلى أبعد الحدود في تحصيل المطالب المتّصلة برفع الحصار، وعلى رأسها دفع المعاشات الذي رفعت «أنصار الله» سقفها بخصوصه، بعدما لمست مسعًى لتلغيم الاتفاق بهذا الشأن، وهو ما أدى بالنتيجة إلى فشل مفاوضات تمديد الهدنة. فشلٌ سرعان ما استدعى وساطات انخرطت فيها جهات مختلفة، بما فيها عُمان وقطر، من أجل إنقاذ الموقف، ومنْع انهيار هدنة تبدو الأطراف المعنيّة ذات مصلحة كبيرة في تَحقّقها، وعلى رأسها واشنطن والرياض وأبو ظبي، وحتى الدوحة
على رغم إبداء التحالف السعودي - الإماراتي، ومِن خَلفه الولايات المتحدة، موافقتهما على تلبية مطالب قيادة صنعاء المتّصلة بالملفّ الإنساني، إلّا أنهما لم ينقطعا، حتى اللحظة الأخيرة، عن محاولة إفراغ الاتفاق من مضمونه، وحرْفه عن وُجهته الرئيسيّة، وإغراقه في التفاصيل، ما أنبأ بأنهما لا يزالان يَنظران إلى الهدنة بوصْفها فرصة للابتزاز والمقايضة. وعلى هذه الخلفية، رفضت «أنصار الله»، بوضوح، تمديد الهدنة لستّة أشهر إضافية، بفعْل العجز عن التوصّل إلى اتّفاق يضْمن صرف مرتّبات موظفي الدولة من المدنيين والعسكريين من إيرادات النفط والغاز، إلى جانب رفع الحصار عن مطار صنعاء وميناء الحديدة، وتثبيت وقف إطلاق النار. المفارقة أن الولايات المتحدة، بعد ستّ سنوات من سكوتها عن قطْع الرواتب في المحافظات الشمالية، باتت تقرّ بمشروعيّة مطلب صرْف هذه المستحقّات، التي أضحت أشبه بلازمة ثابتة في كلّ البيانات الأميركية، وعلى رأسها تصريحات وزارة الخارجية، والمبعوث الأميركي إلى اليمن، تيم ليندركينغ، والتي تتمسّك بـ«الفوائد الملموسة» للهدنة، وتُشدّد على ضرورة المضيّ بها قُدُماً وتوسيعها.
في هذا الإطار، أعرب السفير الأميركي لدى اليمن، ستيفن فاجن، أواخر الأسبوع الماضي، عن «قلقه» من عدم إحراز تقدّم في مسار تمديد الهدنة في اليمن، ودعا الأطراف المختلفة إلى عدم تبديد التقدّم الذي أُحرز خلال الأشهر الستّة الماضية، و«إعطاء الأولوية للشعب اليمني». الجدير ذكره، هنا، أن السفير الأميركي السابق ماثيو تولر، هدّد وفد صنعاء المُفاوِض في الكويت عام 2016، بخيارات من شأنها تدمير العملة المحلّية وتهشيم الاقتصاد اليمني، في حال عدم التسليم بالشروط الأميركية لـ«السلام». على إثر ذلك التهديد بالفعل، عمد الرئيس السابق، عبد ربه منصور هادي، إلى نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، مُوقِفاً دفْع رواتب الموظفين في المحافظات الشمالية، ولتبْقى متوقّفة مذّاك. من هنا، تدرك «أنصار الله» أن التحوّل الحالي في الموقف الأميركي ليس ناجماً عن «صحْوة ضمير» متأخّرة، أو اهتمام مستجدّ بإحلال السلام في هذا البلد الذي ظلّ يعاني 8 سنوات من الحرب والحصار على مرْأى واشنطن، وتحت رعايتها، بل مرّده، بالدرجة الأولى، إلى الواقعية السياسية التي تفرض على الولايات المتحدة ضمان انسيابية ضخّ النفط والغاز من اليمن ودول الخليج، في أعقاب أزمة الطاقة التي ولّدتها الحرب الروسية - الأوكرانية. وعلى هذه الخلفيّة، تبدي الولايات المتحدة اهتماماً بالغاً باستقرار منطقة الشرق الأوسط، حيث تشتدّ حاجتها إلى تفادي التهديد التي يشكّله اليمن للملاحة البحرية والمنشآت النفطية في المنطقة.
التحوّل الحالي في الموقف الأميركي ليس ناجماً عن «صحْوة ضمير» متأخّرة


وإذ تَعرف صنعاء، تمام المعرفة، هذه المصلحة الأميركية، فقد سعت، ولا تزال، إلى استغلالها إلى أبعد الحدود في فرْض المطالب اليمنية الإنسانية على طاولة التفاوض، وعلى رأسها صرف الرواتب، التي باتت عنواناً عاجلاً وملحّاً لدى «أنصار الله»، مذ بدأت تتكثّف المساعي من أجل إقرار تمديد ثالث للهدنة. وفي هذا الإطار، تصف مصادر مطّلعة على المفاوضات، تحدّثت إلى «الأخبار»، المبادرة التي قُدّمت بشأن دفع معاشات الموظّفين في جميع المحافظات اليمنية، بـ«الملغّمة والمفخّخة». وبحسب المعلومات، فإن المبادرة لم تتضمّن ما يؤكد استمرارية عملية الصرف خلال الهدنة وما بَعدها، فيما تُعدّ المعاشات حقّاً مستداماً لا يمكن القبول بربطه باستمرار الصراع من عدمه. كذلك، جرى ربط إجراءات الدفْع بالحكومة الموالية لـ«التحالف»، وهو ما أثار حفيظة صنعاء التي طلبت أن تكون الأمم المتحدة هي المشرفة حصراً على آلية التنفيذ. أيضاً، ترفض حكومة الإنقاذ استبعاد شريحة واسعة من الموظفين، تشمل منتسبي ومتقاعدي وزارتَي الدفاع والداخلية، من لوائح المستفيدين، وتطالب بوضع آليات مضمونة لصرف المرتّبات من عائدات الثروات النفطية والغازية، وهو ما لم يجرِ التجاوب معه البتّة. يُضاف إلى ما تَقدّم أن قيادة صنعاء ترى أن العملة الوطنية التي طُبعت في عهد هادي إنّما هي «مزوّرة ومن دون قيمة»، وثمّة تشريعات قانونية أقرّها البرلمان الموالي للأولى تُحرّم التداول بها في المحافظات الشمالية. وتخشى «أنصار الله» من أن يؤدّي التداول بتلك العملات إلى انهيار الوضع الاقتصادي في مناطق سيطرتها، كما هو حاصل في المناطق الخاضعة لسيطرة «التحالف».
على أيّ حال، فقد أكسبت التجارب الغنية لمفاوِضي صنعاء مع مندوبي «التحالف» ورُعاته الغربيين والقوى المحلّية الموالية له خبرة واسعة، وقدرة عالية على إبطال العروض التي يرونها «مخادعة»، كما يحصل حالياً، من وُجهة نظرهم. وفي هذا الإطار، تحدّث عضو وفد «أنصار الله»، عبد الملك العجري، عن «مراوغات ومغالطات» وسَمَت أداء «دول العدوان خلال المفاوضات»، محمّلاً الأخيرة «مسؤولية الفشل»، باعتبارها هي «مَن يتحكّم ويعبث بثروات اليمن النفطية ويعرقل دفع المرتّبات، ويحتجز السفن ويقتادها إلى موانئه، ويغلق الأجواء اليمنية».