تَجدّد الحديث عن مصير الهدنة في اليمن منذ أُعلن النجاح في التوصّل إلى اتّفاق في اللحظات الأخيرة، يقضي بتمديدها للمرّة الثانية لشهرَين إضافيَين، حتى الثاني من تشرين الأوّل المقبل. قبل ذلك، كانت الأجواء العامّة، في صنعاء خصوصاً، تشير إلى أن ما بعد التمديد الأوّل، الذي انتهى في الثاني من آب الماضي، لن يكون كما قبْله، سواءً لناحية شروط الاتفاق أو آلية ضمان تنفيذه. إلا أن الساعات الأخيرة شهدت تكثيفاً لطرْح ضمانات من أكثر من جهة عربية وغير عربية، دفَع صنعاء إلى القبول بتمديد ثانٍ، ظلّ الحديث أثناءه عن جدوى الهدنة والبديل منها سيّد الموقف. اليوم، تبدو «أنصار الله» كَمَن استفاد إلى الحدّ الأقصى من أيام وقف إطلاق النار الأطول في تاريخ العدوان، الذي انطلق قبل نحو ثماني سنوات. وقد جاء الاستعراض العسكري الضخم في الحديدة بداية الشهر الجاري، ومِن بَعده في العاصمة في الخامس عشر منه، ليبعثا برسائل في أكثر من اتجاه، مفادها أن الحركة مستعدّة لأيّ سيناريو.صحيح أن بيان الخارجية الأميركية الأخير، والذي أعقَب رحلة المبعوث الأميركي الخاص إلى اليمن تيم ليندركينغ، إلى كلّ من الإمارات والسعودية وسلطنة عُمان، وتضمّن تشديداً على أهمية التوصّل «إلى اتفاقية هدنة موسّعة تشمل دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية، وتحسين حرية الحركة من خلال فتح الطرق ونقل الوقود بسرعة عبر الموانئ وتوسيع الرحلات التجارية من مطار صنعاء»، إلّا أن مصادر يمنية مطّلعة تقول، لـ«الأخبار»، إن «التجارب السابقة أثبتت عدم جدّية الطرف الأميركي في رعاية اتفاق مفيد بالنسبة لليمنيين»، مضيفة أن «واشنطن التي أسهمت في التغطية على عرقلة تنفيذ الاتفاق الحالي، يتحدّث مبعوثها اليوم عن اتفاق موسّع غير واضح المعالم والآلية، وبذلك يَصلح ليكون ورقة ضغط وابتزاز جديدة». وإذ تُشدّد المصادر ذاتها على أن «الاستمرار في الهدنة تَحكمه مصالح الشعب اليمني بالدرجة الأولى، وعلى رأسها الملفّات الإنسانية من دفع الرواتب وفتح الطرقات واستمرار تدفّق الوقود، فضلاً عن رفع الحصار وفتح المطار أمام المزيد من الرحلات»، فهي تؤكد أنه «لا يكفي تعبير واشنطن عن دعمها لهذه المطالب، بل عليها إجبار السعودية وأدواتها في اليمن على تنفيذ بنود الهدنة في المقام الأول، وعدم وضع العراقيل أمامها». وتَعتبر أن «الفريق المدعوم من السعودية هو المسؤول عن تفاقم أزمة الوقود الأخيرة، بعدما عرقل مسار دخولها على رغم تفتيشها وحصولها على تصاريح دخول من الأمم المتحدة، ما يثبت أن هذا الفريق، ومِن خلفه السعودية والولايات المتحدة والأمم المتحدة، غير جادّين في الإيفاء بوعودهم بتنفيذ بنود الهدنة»، عادّةً اتّهامات الخارجية الأميركية لـ«أنصار الله» بالتسبّب بالأزمة المذكورة «مجاراة واضحة للاتّهامات المفبركة التي ساقتها الحكومة المدعومة من التحالف السعودي - الإماراتي، ما يعزّز من انعدام ثقة صنعاء بواشنطن وفريقها».
لا تَعتبر صنعاء الهدنة في حدّ ذاتها غايةً بل وسيلة


الثقة المفقودة بين الطرفَين تلخّص الكثير من أسباب الحذر الذي تُبديه صنعاء. صحيح أن الأخيرة راكمت الكثير من الإيجابيات منذ بداية الهدنة الأولى في نيسان الماضي، إلّا أنها، بحسب المصادر «لا تَعتبر الهدنة في حدّ ذاتها غايةً بل وسيلة، وبما أن الغاية لا تبرّر الوسيلة بالنسبة لعقيدة أنصار الله وثقافتها، فإن التمديد لن يكون إلّا بما يحقّق مصالح الشعب اليمني، وذلك بإلزام السعودية وأدواتها بتنفيذ كامل بنود الاتفاق بما يسهم في تحسين ظروف المواطنين والتخفيف من معاناتهم جرّاء العدوان والحصار». وتوضح المصادر أن «القرار الأخير في ما يخصّ التمديد من عدمه، أو في ما يتعلّق بأمَدِ هذا التمديد (لشهرين إضافيين أو لستّة أشهر)، يعود إلى القيادة في صنعاء حصراً، والتي تمتلك كلمة الحسم في هذا الملفّ بناءً على المعطيات التي تمتلكها».
وعند الحديث عن «المعطيات»، تَبرز الجولة التي يقوم بها الناطق الرسمي لـ«أنصار الله»، رئيس الوفد الوطني المُفاوض محمد عبد السلام، والتي قادته حتى الآن إلى طهران والضاحية الجنوبية لبيروت ومنها إلى دمشق، حيث استعرض «آخر الأوضاع السياسية في المنطقة عموماً ‏وفي اليمن خصوصاً، في ما يتعلّق بمفاوضات الهدنة القائمة والتطوّرات الميدانية ‏وآفاق الحلول المطروحة»، بحسب البيان الصادر إثر لقائه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله. وفي هذا الإطار، تقول مصادر سياسية متابعة، لـ«الأخبار»، إن «جولة عبد السلام، والتنسيق بين الحلفاء، من شأنهما أن يحسما إلى حدّ كبير وُجهة صنعاء بخصوص الهدنة، والتي تقف بين خيار الاستمرار بالتمديد، بصرف النظر عن أمَده وشكله وشروطه وآلياته، أو إسقاط الاتفاق إذا ثبت انتفاء جدواها».
هنا، يطفو على السطح أكثر من سؤال عمّا ستكون عليه الصورة في اليمن، في ما لو قرّرت صنعاء سلوك السبيل الثاني. تصريحات أكثر من مسؤول في حكومة «الإنقاذ» أو في حركة «أنصار الله»، قد تعطي «انطباعات» عن شكل مرحلة ما بعد سقوط الهدنة، ومن ذلك ما قاله رئيس «المجلس السياسي الأعلى»، مهدي المشّاط، خلال عرض «وعد الآخرة» في مدينة الحديدة في الأوّل من أيلول الجاري، حيث تَوجّه إلى دول «التحالف» بالقول إن «الذي يشكّل خطراً على الملاحة الدولية هو إجراءاتكم الوحشية والتلذّذ بمعاناة شعبنا»، وشدّد على أن «في مقدور القوات المسلّحة اليمنية الآن ضربَ أيّ نقطة في البحر من أيّ مكان في اليمن، وليس من السواحل فقط»، مؤكداً أن «التهرّب من التزامات الهدنة، والعودة إلى حجز السفن، يعرّضان الهدنة للخطر، ويجعلانها في مهبّ الريح».
قراءة هذا الموقف، وغيره من المواقف المشابهة، تشير إلى أن عودة الزخم إلى الجبهات لن تكون بالوتيرة والوُجهة نفسهما اللتين كان عليهما قبل سريان الهدنة. بتعبير آخر، فإن دول «التحالف»، بموانئها ومنصّات الطاقة خاصّتها، وحتى ممرّاتها البحرية، ستكون هي الجبهات، مع ما يعنيه ذلك في هذه المرحلة، حيث تسعى الولايات المتحدة جاهدة لتأمين بدائل للغاز الروسي على أعتاب فصل شتاء يبدو أنه سيكون شديد البرودة على الأوروبيين. بالتالي، تبدو إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن غير مستعدّة لفتح جبهة غير مستقرّة في بقعة جغرافية فائقة الأهمية بالنسبة لإنتاج الطاقة ومسارها، في هذا التوقيت بالتحديد. وتدعم تلك القراءةَ حقيقةُ أن لا نظراء لـ«أنصار الله» في الداخل؛ إذ في الوقت الذي عزّزت فيه الهدنة صفوف الحركة، فهي خلقت انقسامات كثيرة في صفوف الأطراف المناوئة لها والموالية لـ«التحالف»، والتي تعتقد أن لا ناقة لها ولا جمل في الاتفاق الساري حالياً، خصوصاً في ظلّ حملة الإقصاء التي تقودها السعودية والإمارات ضدّ أطراف كانت أساسية في مواجهة قوات صنعاء، وفشلهما في تكوين جبهة جديدة من الفصائل التابعة للشخصيات المنضوية تحت قبّة «مجلس القيادة الرئاسي»، والتي نبت العشب في ما بينها سريعاً.