على رغم أن الهدنة في اليمن لم تكن لتَتحقّق لولا ثبات اليمنيين، وإصرارهم على انتزاع حقوقهم، إلّا أن الإدارة الأميركية تتعامل معها على أنها واحد من أفضل إنجازاتها الخارجية. وهو «إنجازٌ» كان دفَع في اتّجاهه الظرف الدولي الناتج من الأزمة الأوكرانية، حيث وجدت الولايات المتحدة الحاجة ملحّة إلى الإسراع في تبريد الجبهة اليمنية خشية تشكيلها خطراً على إمدادات النفط والملاحة البحرية. وهكذا، فإن ما كان مستحيلاً قبل تلك الأزمة، صار بِلمْح البصر ممكناً، بل وفُرض فرضاً على الأطراف الخليجية، ولا سيما السعودية، التي أُرغمت على الاستجابة لبعض المطالب الإنسانية التي طالما وضعتها صنعاء شرطاً لأيّ هدنة أو وقف لإطلاق النار. والظاهر أن واشنطن، انطلاقاً من الاعتبارات نفسها، ستعمل خلال المرحلة المقبلة على توسيع دائرة هذه الاستجابة، بعدما دأبت هي نفسها على استخدام الملفّات الإنسانية كأداة من أدوات الحرب، وهو ما يُجيز توقُّع مزيد من الخطوات على صعيد رفع الحصار عن مطار صنعاء وميناء الحديدة، ودفْع رواتب موظّفي الدولة في المحافظات كافة.وتَعتبر الولايات المتحدة أن مصالحها تتأثّر بما يجري في اليمن، وأن خروج هذا البلد من دائرة نفوذها يهدّد أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية، خاصة في ما يتعلّق بالملاحة البحرية وحماية الممرّات البحرية التجارية، والمقصود هنا تحديداً باب المندب الذي يُعتبر المدخل الجنوبي للبحر الأحمر؛ إذ تُوليه واشنطن أهمية فائقة، وتَعدّ «حمايته» من أكبر أهدافها في الإقليم، سعياً لمنْع أيّ قوة دولية منافِسة كما الصين وروسيا، أو إقليمية خصْمة كما إيران، من تثبيت موطئ قدم لها فيه، بالإضافة إلى ضمان أمن إسرائيل عبره وكفالة تدفُّق الغاز والنفط منه. وفي هذا الإطار، أعلن قائد الأسطول الأميركي الخامس، تشارلز برادفورد كوبر، في مقابلة صحافية قبل أيام، أن بلاده ستزيد من تركيزها على ضمان الأمن البحري، واستقرار الملاحة في البحر الأحمر، عبر باب المندب وخليج عدن. وأشار كوبر إلى أن بلاده أنشأت «قوّة الواجب المشتركة» الجديدة، والتي تُعدّ الأولى المعنيّة بالمنطقة المذكورة، من أجل الغرض المتقدّم، كاشفاً أن قوّاته تستعدّ أيضاً لنشر أحدث أسطول طائرات من دون طيار هناك، بحلول صيف 2023، لـ«ضمان الأمن البحري الإقليمي»، ورصد أيّ «نشاط مزعزع لاستقرار المنطقة، ولا سيما في الممرّات المائية الحيوية، وسرعة الاستجابة لردع هذه الأنشطة». وكان الأسطول الخامس في البحرية الأميركية أعلن، بالتزامن مع بدء الهدنة الأولى مطلع نيسان الماضي، تشكيل فرقة باسم «فرقة العمل المشتركة البحرية 153»، سيكون مسرح عمليّاتها البحر الأحمر، بالتعاون مع شركاء دوليين وإقليميين. وعلى إثر ذلك، جرى الحديث عن الإجراء المُشار إليه بوصفه خطوة أميركية أحادية الجانب، لا تنفصل عن تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، وتستهدف في الوقت ذاته إيران، من خلال التضييق على أذرعها «العنيفة» في المنطقة، خصوصاً أن قائد «الفرقة 153» أشار إلى أنها تستهدف، على نحوٍ مباشر، التهديدات البحرية التي تثيرها «أنصار الله» جنوبي البحر الأحمر.
يبدو أن خطّة الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها تشمل أيضاً «برامج دعم» لـ«المجلس الرئاسي»


وإلى جانب ما تَقدّم، يبدو أن خطّة الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها في اليمن، تشمل أيضاً «برامج دعم» لـ«المجلس الرئاسي» - الذي تعصف الخلافات بين مكوّناته - بما لا يقلّ عن مليار دولار تحت ذريعة «المساعدات الإنسانية إلى الشعب اليمني». كما تتضمّن الخطّة، بحسب السفير الأميركي لدى اليمن ستيفن فاجن، دعم قوات خفر السواحل وحرس الحدود التابعَين للحكومة الموالية للتحالف السعودي - الإماراتي، في إطار ما سمّاه «الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب»، إضافة إلى الدعم المُقدَّم عبر «وكالة التنمية الأميركية»، خصوصاً في مجال بناء القدرات المؤسَّسية للبنك المركزي ووزارة المالية، فضلاً عن قطاعات الصحّة والتعليم والمياه والصرف الصحّي. كذلك، وافقت الإدارة الأميركية على استئناف برامج التبادل الثقافي مع اليمن، وعلى رأسها «برنامج الزائر الدولي» المتوقّف منذ سبع سنوات. وتأتي محاولة الولايات المتحدة البحث عن أطر للحضور المباشر نيابة عن حلفائها المهزومين في اليمن، بعدما وصلت الحرب التي أمدّتها بمختلف أنواع الدعم، مُشكِّلةً رافعة للتحالف السعودي - الإماراتي فيها، وعاملاً رئيساً في إطالة أمدها، إلى طريق مسدود. ويكاد ما تقوم به واشنطن اليوم يماثل ما فعلته تحت ذريعة «مكافحة الإرهاب» منذ عام 2000، حيث اتّخذت من هذا الملفّ غطاءً لتدخّلاتها المباشرة، مهشِّمة الحدود الفاصلة ما بين عمل السفير وما بين عمل المندوب السامي، وجاعلة من الحكومة اليمنية كياناً تابعاً بالمطلق لها.