لا يَستعجل محمد بن سلمان الخروج من اليمن. لا يريد الأمر بأيّ ثمن. كما أنه لا يرغب في البقاء بعد أن لاح الحائط المسدود أمامه. فتَر اهتمامه بالملف. ظهرت أمارات ذلك جليّة، أقلّه مذ عيّن شقيقه خالد مسؤولاً عن الملف. وبعدما تَأكّد أن الانتصار التامّ بعيد المنال، بات يتشبّث بخيار البحث عن انسحاب لائق لا يبدو صفريّ النتائج، ويصرّ على ذلك. قبل عام، وصل جو بايدن إلى البيت الأبيض حاملاً معه مواقف عدائية للأمير السعودي وشعارات عريضة عن مساعٍ جادّة لإيقاف الحرب وتعليق المشاركة الأميركية فيها... تحتاج جميعها اليوم إلى التدقيق في ما إذا كانت أبعد من حسابات انتخابية وداخلية.لِنعُد إلى أسابيع أعقبت فوز بايدن، شهرَي شباط وآذار تحديداً. فقد شهدت العواصم الخليجية وقتها تحرّكاً ديبلوماسياً أميركياً مهمّاً على خطّ الملف اليمني. جال المبعوث الخاص لليمن، تيموثي ليندركينغ، على السعودية والإمارات، وأخذته الجولة كذلك إلى عُمان والأردن والكويت وقطر، في وقت كانت نضجت فيه المصالحة الخليجية.
«الأخبار» اطّلعت على وثيقة سرّية تَكشف ما نقله ليندركينغ في هذه الجولة لبعض المسؤولين الخليجيين، وهي جولة أتت تتويجاً لاتّصالات تمهيدية كانت أجرتها إدارة بايدن بالخصوص.
في أبرز ما قاله المبعوث الأميركي لمستضيفيه، هو نقله أن إدارة بايدن وضعت «اليمن أولوية لها، وتريد العمل الآن على المسارين السياسي والإنساني. خلال جولتين قمت بهما إلى المنطقة هذا العام (2021)، التقيت خلالهما بالقيادة السعودية والمبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث، وأطلعني السيد غريفيث على العناوين العريضة لخطة لديه تتضمّن فتح ميناء الحديدة وفتح مطار صنعاء. وهذا يلبّي بعض الشروط التي يرغب بها الحوثيون لإنهاء الحرب».
والأهم أن ليندركينغ قد تلمّس وجود «إرادة جادة لدى الجانب السعودي لإنهاء الحرب في اليمن»، ويستشهد على ذلك بسرْد مضمون اتصال جرى بين ابن سلمان ووزير الدفاع الأميركي (لويد أوستن) قبل الجولة، أسرّ له فيه الأمير السعودي بأهمية إنهاء الحرب، مستخدماً عبارة «leave with dignity»، أي أنه «يرغب بالخروج منها بكرامة».
ليندركينغ: نحن أكدنا للمسؤولين السعوديين، وأعتقد أنهم يَعُون ذلك، ضرورة عدم مغادرة اليمن تماماً


هنا، يعقّب المبعوث الأميركي بالقول: «نحن أكدنا للمسؤولين السعوديين، وأعتقد أنهم يَعُون ذلك، ضرورة عدم مغادرة اليمن تماماً وأهمية أن يبقوا منخرطين في التعامل مع الأوضاع المختلفة المرتبطة بالنزاع اليمني، على غرار ما كان الوضع قبل الحرب» (I don't mean get out and leave it, but work very constructively to end the conflict).
وفي دلالة على وجود استعجال أميركي لانتزاع وقف إطلاق نار، لا يغفل ليندركينغ تقديم تطمينات للسعوديين بعدم إهمال النتائج: «نحن ندرك جميعاً أن أزمة اليمن لن تنتهي بوقف إطلاق النار، لكننا لسنا مستعدين لانتظار فرصة أخرى، ونرغب بشدة في البدء بالعملية السياسية وصولاً إلى تشكيل حكومة انتقالية في اليمن».
وإذ يُعدّ الموقف الشخصي لابن سلمان حاسماً في نقاش الحرب اليمنية، ينتقل المبعوث الأميركي مع محدّثيه للإضاءة على «مصلحة» ولي العهد في عدم استمرار الحرب، بالقول: «ندرك بأن ولي العهد السعودي يرغب بالتركيز على رؤيته لمستقبل المملكة 2030، وبأن استمرار الحرب في اليمن يقوّض هذه الرؤية ويستنزف الإمكانات والأموال ويمس بسمعة المملكة في الخارج. مع ذلك، نتساءل عمّا إذا كان الحوثيون مستعدّين لتقديم تنازلات. ونحن نتابع بقلق هجماتهم المتزايدة على أهداف داخل المملكة بهدف تحسين موقفهم التفاوضي على الأرجح».
تطورات الاتصالات الأميركية عاد ونقلها ليندركينغ، بحسب الوثيقة، إلى الجانب العُماني. وفي مسقط، جرى لقاء ثلاثي جمعه إلى وزير الخارجية العماني، ووزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان. اللافت أن المبعوث الأميركي يعلّق على هذا الاجتماع بملاحظته «تحوّلاً» لدى سلطنة عمان: «من الجدير التنويه بأنه للمرة الأولى لاحظنا تحولاً إيجابياً خاصاً لدى الجانب العماني للتحرك باتجاه وضع نهاية للحرب في اليمن، مع الإشارة إلى أنهم في السابق كانوا أقل اهتماماً وفضّلوا المتابعة من بعيد».
لعلّ الكواليس هذه تسهم في فهم أدقّ لجوانب من مآلات الحرب في اليمن واستعار ميادينها من جديد. وفي جملة الخلاصات، فقد أظهر ابن سلمان تمسّكاً بعدم الرضوخ التامّ لأجندة إدارة بايدن. والأحداث اللاحقة تؤكّد أن هذه الإدارة لم تكن بالجدّية التي تحدّثت عنها حين رفعت شعار أن إيقاف الحرب أولوية، لا بل هي عادت للانخراط فيها عبر استئناف صفقات الأسلحة وتورّط أمني وعسكري ولوجستي متزايد. هذا ما تؤكّده أيضاً، للمفارقة، أحْدث جولة لليندركينغ خليجياً، بدأها الأسبوع الماضي، لا للضغط واستعجال تحقيق «السلام» واحتواء تفاقم الأزمة الانسانية، بل «تضامناً» وبحثاً في تحسين موقف الحلفاء إثر تلقّيهم الهجمات الأخيرة من اليمن.