كثيرة هي المعارك التي خلّدها التاريخ. بعضها دخلته بوصفها محورية غيّرت مسارات وبدّلت مصائر؛ وأخرى ولجته من بوّابة كونها الأغبى كما هي «معركة كارانسيبيس» التي قاتل فيها الجيش النمسوي نفسه، بينما كان من المفترض أن يحارب العثمانيين. أمّا معركة «تحرير» صنعاء، فلربّما تكون المَضحكة الأكبر في التاريخ العسكري. يكاد المتتبّع لمسارها لا يعثر، أصلاً، على النقطة الصفر لانطلاقها من كثرة ما أُطلقت على مرّ سنوات. من «قادمون يا صنعاء»، إلى «نصر 1»، ثم «نصر 2»، وصولاً إلى «نصر 3»، كان «تحرير صنعاء»، بالنسبة إلى التحالف السعودي ــــ الإماراتي، «مسألة وقت»، مثلما ردّد كثيراً الناطق السابق باسم «التحالف»، أحمد عسيري. على أن مسألة الوقت هذه ظلّت عصيّة على التحقّق طوال أربعة أعوام (ما بين 2016 و2019).
أنقر على الصورة لتكبيرها

صحيح أن القوات الموالية لـ»التحالف» استطاعت السيطرة ــــ على مراحل ــــ على البوّابة الشرقية للعاصمة من جهة محافظة مأرب، والمُتمثّلة في مديرية نهم التي لا تبعد عن وسط صنعاء أكثر من 60 كيلومتراً، إلا أن هذا «الإنجاز» لم يُفِد السعوديين والإماراتيين سوى في اجترار «الانتصارات» في وسائل إعلامهم، وتقديم المهازل التي مَثّل «المراسلون الحربيون» لتلك الوسائل بطلها المطلق. «نحن هنا، أين أنتم؟»؛ عبارة اشتُهر بها أحد أبرز هؤلاء خلال تغطيته معارك نهم، حيث كان يتنقّل، والقيادات العسكرية التابعة للرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي، من تُبّة إلى تُبّة، مبشِّراً بقرب «سحق الانقلابيين»، و»إعادة الشرعية»، و»استعادة اليمن إلى الحضن العربي». انطفأ صوت أولئك بما يُمثّلون، فيما بات معسكرهم محصوراً داخل مساحات محدودة من محافظة مأرب. أمّا «الانقلابيون» فاستطاعوا، خلال أشهر معدودة منذ مطلع العام الجاري، استعادة كامل مديرية نهم، والسيطرة على مساحات واسعة من محافظَتي الجوف ومأرب، حتى باتوا اليوم على أبواب مدينة مأرب، التي يبدو سقوطها، بالحرب أو بالتفاوض، قاب قوسين (بدأ مسلسل الانتكاسات، عملياً، أواخر 2018، مع تمكّن الجيش واللجان الشعبية من السيطرة على معظم مديرية صرواح في مأرب، كاشفَين بذلك ظهر القوات المناوئة لهما في نهم، وهو ما جعل صرواح تنال نصيباً كبيراً من القصف الجوي بلغ أكثر من 25 ألف غارة).
دائماً ما عزا «التحالف» المراوحة في معركة صنعاء إلى سببين رئيسيين: الحرص على أرواح المدنيين، والضنّ بأرواح العسكريين. سببان يستبطنان الكثير من التضليل الذي بات ملازِماً للمنصّات الإعلامية السعودية ــــ الإماراتية، وخصوصاً في ما يتعلّق بالحرب على اليمن. على مستوى الخسائر المدنية، أثبتت الرياض وأبو ظبي أنهما لا تحتاجان إلى معركة برّية كبرى حتى تُوقعا مجازر في صفوف العزّل، وما أرقام الضحايا الذين حصدتهم الغارات الجوية التي بلغت حتى عام 2019، 257 ألف غارة، إلا أوضح دليل على ذلك. أمّا السعي إلى تفادي الزجّ بعدد كبير من القوات البرّية، فتلك «كذبة» أخرى يراد من ورائها تمويه حقيقة العجز عن خوض هكذا غمار، والذي تجلّى نموذج مصغّر منه في معارك الحدّ الجنوبي، حيث لا يستطيع الجنود السعوديون الثبات أمام هجمات المقاتلين اليمنيين، فيما في الجوّ تكاد تكون الطائرات السعودية عمياء تماماً لولا السند المعلوماتي من الحلفاء الغربيين، ومع ذلك فهي تضرب خبط عشواء في معظم الأحيان.
منذ البداية، ظهر أن كلّاً من الرياض وأبو ظبي تعزف على وتر منفرد


لكن، حتى المقاتلون من القوى المحلية الحليفة، والذين لا يبدي «التحالف» أدنى اكتراث لحيواتهم، لم يفلح الزجّ بأعداد كبيرة منهم في الميدان، هو الآخر، في قلب المعادلة في صنعاء لمصلحة السعودية والإمارات. بدا هؤلاء، خلافاً لمقاتلي «أنصار الله»، أعداء لدودين للأرض التي يقاتلون عليها، جاهلين تضاريسها وخفاياها وسبل مؤالفتها، ولم تشفع لهم في ذلك محاولتهم استنساخ تجربة الحركة في توليد الحماسة في صفوف عناصرها. زاد الأمرَ تعقيداً فقدانُ الدافعية المشتركة لتحقيق الهدف. منذ البداية، ظهر أن كلّاً من الرياض وأبو ظبي تعزف على وتر منفرد. كان الهمّ الرئيسي، بالنسبة إلى الأخيرة، كيفية قضم النفوذ السعودي في الجبهة الشرقية، سواء عبر استمالة القبائل الموالية تاريخياً للمملكة، أو من طريق مناكفة حزب «الإصلاح» (إخوان مسلمون) الحليف التقليدي للرياض، أو من خلال محاولة إنشاء تشكيلات شبيهة بتلك التي بُنيت في الجنوب كـ»الحزام الأمني» و»النخبة الشبوانية» و»النخبة الحضرمية»، أو حتى عبر تنفيذ عمليات اغتيال وقصف ضدّ القيادات والقوات التابعة لهادي مثلما حدث في استهداف اجتماعات تضمّ وزير دفاعه غير مرّة. وعلى رغم أن الإمارات فشلت في انتزاع السيطرة على الجبهة المذكورة قبيل إعلان انسحابها من قاعدتها في مديرية صرواح في محافظة مأرب مطلع تموز/ يوليو 2019، إلا أن الخلافات بينها وبين وكلاء السعودية خلّفت آثاراً مريرة على معسكرهما، حيث بات التشرذم والحقد وغياب الحافز العنوان الأبرز، إن لم يكن الوحيد. وهي سمات يضاعف تأثيراتِها استمرار أبو ظبي في مساعيها إلى تضييق الخناق على منافسيها، عبر رئيس الأركان الموالي لها، صغير بن عزيز، الذي لم يترك وسيلة لإضعاف «الإصلاح» إلا لجأ إليها.
على رغم كلّ ما تَقدّم، لم ييأس «التحالف» من إمكانية النفاذ إلى صنعاء. راهَن في كانون الأول/ ديسمبر 2017 على أن يدفع انفجار الخلاف بين «أنصار الله» والرئيس الراحل علي عبد الله صالح نحو إسقاط العاصمة، لكن ذلك لم يحدث. وفي عام 2018، أخذته «الأحلام» إلى تصوّر إمكانية بلوغ صنعاء من خلال الحديدة، إلا أن رمال الساحل الغربي لم تثبت تحت قدميه. وفي عام 2019، أراد الوصول إلى هدفه هذه المرّة عبر إشعال فتن قبلية متنقّلة في محيط صنعاء (كما حدث في مديرية كشر، المعقل الرئيسي لقبائل حجور، في محافظة حجة)، غير أن الجيش و»اللجان الشعبية» سرعان ما تحرّكا لإخماد تلك الفتن وتأمين المناطق التي شبّت فيها.
هكذا، كانت صنعاء ــــ الحصن، وفق ما تُترجم به تسميتها في اللغة السبئية، تزداد بعداً، عاماً بعد عام، عن الغزاة، إلى أن باتت اليوم في أمان مطلق.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا