ليست الحرب على اليمن شبيهة بـ"اتفاقية باريس للمناخ" التي انسحبت منها إدارة دونالد ترامب، وبإمكان إدارة جو بايدن العودة إليها بعد إعادة التفاوض عليها. ذلك أن مصالح أميركا المباشرة هناك قد تمنع بايدن من تنفيذ وعده الانتخابي بإنهاء الحرب من خلال وقف مشاركة بلاده فيها، والاستجابة لمطالبات الكونغرس بحظر مبيعات الأسلحة إلى الرياض. يَتوهّم البعض أن الرئيس المنتخب سيسارع الى سلوك اتجاهات سياسية تفاوضية في اليمن، بعيداً من شبكة المصالح المعقدة والمتناقضة تلك، والتي تُصعّب حسم الخيارات. صعوبةٌ تضاف إليها حقيقة أن الإدارة الأميركية، سواء كانت جمهورية أو ديموقراطية، لم تعد تلك القوة التي إن قالت فعلت، وإن فعلت حَقّقت النتائج المطلوبة، وخصوصاً أن في المنطقة أطرافاً فاعلة ومؤثّرة هي جزء لا يتجزّأ من أيّ مفاوضات، فيما سيكون الجانب السعودي الأقلّ تأثيراً على رغم احتلاله مناطق واسعة في جنوب اليمن، نظراً إلى فشله في إدارة المناطق المحتلّة ووجود شركاء آخرين له فيها. في المقابل، فإن خيار دخول الولايات المتحدة الحرب بشكل مباشر، أو تعميق الانخراط فيها، يبدو مُتعذّراً لمخالفته استراتيجية إنهاء الحروب التي وعدت الإدارة الجديدة بانتهاجها. إزاء ذلك، اعتبر "مركز ستراتفور الأميركي" للدراسات الاستراتيجية والأمنية أن نافذة الخروج من الصراع في اليمن، من دون تعريض كلّ "المكاسب" التي جنتها السعودية للخطر، بدأت تنغلق على نحو سريع. وتَوقّع المركز أن تتّسم علاقات الرياض وواشنطن بمزيد من الخصومة عندما يتسلّم بايدن مهامّ منصبه رسمياً في 20 كانون الثاني/ يناير المقبل، حيث ستكون المملكة عرضة لضغوط سياسية أميركية، ما سيُعمّق فجوة الثقة بين الدولتين الحليفتين. إذ إن بايدن، على العكس من ترامب، لن يكون ميّالاً إلى عرقلة محاولات الكونغرس إنهاء الدعم الأميركي للحرب، علماً بأن ترامب استخدم حق النقض أكثر من مرّة ضدّ قرارات الكونغرس في هذا الإطار، بل ربّما تتَخذ الإدارة الجديدة قراراً سريعاً بتقليص ضلوعها في الصراع، وترك السعودية من دون الدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي يغذّي عملياتها في اليمن. وخلافاً لإدارة ترامب التي انتهجت سياسة إذكاء الصراع بين السعودية وإيران والاستثمار فيه، فإن إدارة بايدن تؤمن بمقاربة مختلفة قائمة على تفاوض طهران والرياض على كلّ الملفات الخلافية بينهما، بما فيها اليمن، وهذا ما لمح إليه "ستراتفور" بالقول إن القلق بدأ يستبدّ بالسعوديين من نهج الإدارة الجديدة حيال طهران وسجلّ الرياض في مجال حقوق الإنسان، ولا سيما بعدما تَوعّد المملكة بتحويلها إلى دولة "منبوذة" بسبب قتلها الصحافي جمال خاشقجي في عام 2018.
الإدارة الأميركية لم تعد تلك القوة التي إن قالت فعلت، وإن فعلت حَقّقت النتائج المطلوبة


على أيّ حال، يدرك الجميع أن الحرب على اليمن أميركية بامتياز، فيما تعتقد أوساط الإدارة الجديدة أن الحرب حَقّقت أهدافها الأميركية من خلال "تحجيم" تهديد "أنصار الله"، و"حصر" الحركة في الشمال، و"إبعادها" عن الممرّات البحرية الدولية، وعن المواقع الحيوية والاستراتيجية (من موانئ وجزر وشواطئ). وعليه، فإن استمرار الحرب لم يعد مجدياً لواشنطن، التي باتت معنيّة بالتفاوض (مباشرة أو عبر وسطاء) مع صنعاء لإيجاد اتفاق يمنع استمرار تهديد تلك المصالح. هنا، سيقع الافتراق بين الجانبين الأميركي والسعودي، لأن أيّ اتفاق لن يكون مثالياً للمملكة التي ترى في سيطرة "أنصار الله" على الشمال "تهديداً وجودياً"، وتكراراً لتجربة "حزب الله" على حدودها الجنوبية، فضلاً عن أنها معنيّة بإيجاد حلّ تفاوضي يحفظ ماء وجهها ولا يظهرها مهزومة.
على أن الإشكالية في كلّ ما تَقدّم تكمن في أنه لا رافعَ حقيقياً، سواء أميركياً أو إقليمياً، يلزم صنعاء أو يقنعها (حليف أو عدو) بتقديم تنازلات من دون مكاسب، ولا سيما أنها ليست معنيّة بإنهاء الحرب بأيّ ثمن، ومن دون تحقيق المطالب الوطنية، وبما يتناسب مع القدرة على ترجمة الوقائع الميدانية المستحدثة، في انتقال الجيش و"اللجان الشعبية" إلى مرحلة متقدّمة في المبادرة والهجوم، وهو انتقال قَدّم خلاله اليمنيون تضحيات فادحة من دمائهم وممتلكاتهم. تضحياتٌ تبدو بحجم أهداف الاستقلال والسيادة والقرار الحرّ والخروج من الهيمنة إلى غير رجعة. وعليه، من الطبيعي أن تسعى صنعاء إلى انتزاع مطالبها المحقة، سواء بالمفاوضات أو بالاستمرار في الحرب، وما عدا ذلك سيعني استسلاماً. وهذا لم يكن مطروحاً في الماضي ولن يكون في المستقبل مهما غلت التضحيات، للتيقّن بأن تكلفة الهيمنة والوصاية خلال العقود الماضية أكبر بكثير من تكلفة استمرار الحرب.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا