«دخلنا معركة الفساد، وسنواصل السير فيها، وخرجنا برؤية سنعلنها خلال أيام لتفصيل المحاور المُوزّعة على الأجهزة الرقابية في هذه المعركة». بهذه الكلمات، أعلن مدير مكتب رئاسة الجمهورية اليمنية في صنعاء، أحمد حامد، بدء خوض معركة مكافحة الفساد، التي وصفها بأنها «مطلب شعبي وواجب وطني وديني وهدف من أهداف الثورة، ونحن نعرف أن طريقها طويل وليس مفروشاً بالورود». وجاء هذا الإعلان في خلال تدشين الرئاسة اليمنية، الثلاثاء الماضي، فروع «هيئة رفع المظالم» في محافظات الجمهورية، بحضور رئيس الهيئة، ومفتي الديار اليمنية شمس الدين شرف الدين، وعدد من الوزراء والشخصيات الرسمية والحزبية. وأُنشئت «هيئة رفع المظالم» بقرار من رئيس الجمهورية في ربيع عام 2011، وقد خضعت للتعديل من قِبَل رئيس «المجلس السياسي الأعلى» عام 2018. ومن مهامّها دراسة التظلّمات وطلبات المراجعة للأحكام القضائية النهائية، إعداد وصياغة مشاريع القوانين الخاصة بالعفو الشامل، والنظر في التظلّمات المُقدَّمة من عدم تنفيذ الأحكام القضائية أو التراخي في تنفيذها، علماً أنها تستهدف في عملها المؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية والأمنية كافّة. وكان للهيئة مقرّ واحد في العاصمة صنعاء مرتبط حصراً برئاسة الجمهورية، أمّا اليوم فقد باتت لها عدّة فروع في المحافظات تستهدف التوفير على أصحاب المظالم عناء الانتقال إلى صنعاء لتقديم شكاواهم، وما يفرضه ذلك من انتظار وإقامة حتى النظر والبتّ في التظلّمات التي قَدِموا من أجلها.وكان رئيس «المجلس السياسي الأعلى»، مهدي المشاط، أعلن، في أول لقاء له برئيس حكومة الإنقاذ، عبد العزيز بن حبتور، ومحافظي المحافظات في العاصمة صنعاء ربيع عام 2018، عن خطة يجري وضعها لتفعيل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ومكافحة الفساد، مؤكداً أن الخطة التي ستخرج إلى الضوء «في وقت قريب»، سيكون الجميع بموجبها «تحت طائلة القانون، وأوّلهم الرئيس» كما قال، وسيعقبها قيام وزارة المال والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ووزارة الإدارة المحلية بتشكيل لجان ميدانية للنزول إلى مؤسسات الدولة. غير أن التطورات العسكرية، وانتقال اليمن من مرحلة التصدّي والصمود (الدفاع) إلى مرحلة الهجوم، وانصراف الدولة بمؤسساتها كافّة لتوفير مستلزمات نجاح هذه المرحلة، أدت إلى صرف النظر المؤقت عن الخطة المذكورة.
شمل الفساد كلّ المستويات في النظام السابق، من رئيسه إلى أدنى مستوياته


ويبدو أن الاستقرار السياسي والأمني في مناطق سيطرة «المجلس السياسي الأعلى»، في الآونة الأخيرة، سمح بإعادة فتح الملفات التي كانت مقاربتها متعسّرة. وأمام ضغوط الرأي العام، والدافع القيمي والأخلاقي للثورة اليمنية، وحجم التضحيات الكبيرة في مواجهة العدوان، وجدت قيادة صنعاء أنها لم تعد معذورة في الاستمرار في إشاحة النظر عن الفساد المتراكم منذ عشرات السنين. وهي قناعة تضع القيادة السياسية أمام جملة تحدّيات، برزت إرهاصاتها في محاولة المتضرّرين في الدولة العميقة وبعض الشركاء وأصحاب المصالح والثروات غير المشروعة التشويش على تفعيل العملية الإصلاحية ومكافحة الفساد بادّعاء التسييس واستهداف المعارضين. وفي رسالة تطمين للشركاء في حكومة الإنقاذ، والمقصود هنا «المؤتمر الشعبي العام» - فرع صنعاء وأحزاب «اللقاء المشترك»، أوضح مدير مكتب رئاسة الجمهورية أن الرقابة ليست استهدافاً لأحد الشركاء، ولا تعني توقيف الأجهزة الرقابية، بل أن «نتشارك في خدمة الناس وإنصافهم والقيام بكامل المسؤولية»، مُذكّراً بأن «النظام السابق ترك لنا ركاماً من القضايا التي تحتاج إلى معالجة أسبابها (قوانين - لوائح - ثقافة مصالح - إفساد للنفوس... حتى أصبحت السرقة مهارة والفساد ثقافة). وفي هذا السياق، أعلنت وسائل إعلام يمنية أن «هيئة مكافحة الفساد» التابعة لحكومة صنعاء أوقفت أحد الوزراء، مع عدد من المسؤولين في وزارته، عن العمل، بتهم فساد، وذلك في سابقة فريدة من نوعها في التاريخ اليمني، مشيرة إلى أن الوزير الموقوف رفض تزويد فريق التحرّي والتحقيق بالوثائق المطلوبة.
ويتمثّل الفساد في اليمن في شبكة معقّدة ضاربة الجذور في عمق الدولة، وفي اقتصادها السياسي منذ عقود. وقد ساهمت عوامل كثيرة في تكريسه، أبرزها تركيبة الحكم القائمة على الشراكة بين رأس الدولة وزعماء القبائل، مقابل توفير امتيازات شخصية ومادية وسياسية للأخيرين، وهو ما أدى إلى تعاظم تأثير هؤلاء على اتجاهات القرار السياسي للدولة، على حساب الحكم الرشيد في البلاد. ومن العوامل المهمّة أيضاً، الارتهان الكامل لدى النظام السابق للمملكة السعودية التي لم تكتف برأس النظام وقيادته السياسية، بل تغوّلت في مفاصل مؤسسات الدولة كافّة (وزراء، نواب، مدراء، وكلاء، قضاة، كبار ضباط الجيش والأجهزة الامنية، فضلاً عن قيادات الأحزاب والقبائل وكبار التجار ورجال الأعمال)، من خلال الرشوة والتشجيع على استغلال السلطة، مُتسبّبة بحالة من تعميم الفساد. ومن المعروف في اليمن أن عدد المسؤولين الذين كانوا يتقاضون رواتب من «اللجنة السعودية الخاصة» يُقدّر بالآلاف، وأنهم كانوا يتسلّمونها إمّا مباشرة أو من خلال مراكز النفوذ في البلد، وأبرزهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ورئيس مجلس النواب الأسبق عبدالله الأحمر، مقابل الولاء وتنفيذ الأجندة السعودية القاضية بشلّ المؤسسات الحكومية والإعانة على استمرار رهن البلد وفق مخططها القائم: داخلياً، على إفقار الشعب وإذلاله حتى لا يتسنى له القيام بدوره وقيادة بلده وإنجاز استقلاله وسيادته؛ وخارجياً، شراء صوت اليمن في المحافل الإقليمية والدولية، والاستفادة من موقعه الاستراتيجي.
والجدير ذكره، هنا، على أن الفساد شمل كلّ المستويات في النظام السابق، من رئيسه إلى أدنى مستوياته، وقد قَدّر تقرير للأمم المتحدة نُشر عام 2015 أن علي عبدالله صالح جمع ثروة قد تصل إلى 60 مليار دولار عن طريق الفساد، خلال العقود الثلاثة التي حكم فيها اليمن.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا