حتى وقت قريب، ظَلّ السياسي الإسرائيلي، بروس كاشدان، رجلاً سرّياً يتحرّك من وراء الكواليس؛ فبحسب ما يُقال عنه هو «متواضع، ويحبّ العمل في الخفاء»، حتى إنّه لا صورة له على محرّكات البحث، على رغم كلّ "تفانيه". وكان للرجل أن يظلّ كذلك لولا أن محلّلين إسرائيليين لا يوفّرون فرصة لقصف جبهة رئيس حكومتهم. فَمَن هو هذا الرجل؟ ظهرت، أخيراً، عدّة تقارير صحافية إسرائيلية تنتقد أطماع نتنياهو الشخصية، وكيف أن الأخير استغلّ إعلان التطبيع مع الإمارات ليظهر كأنه السياسي الوحيد الذي يعود له الفضل في تحقيق ذلك، قبل أن تبرز مسألة الخلاف مع وزير الأمن، بيني غانتس، الذي لم يُطلعه نتنياهو أساساً على موعد الإعلان. إضافة إلى ما تقدّم، انتُقدت البعثة التي أُرسلت إلى الإمارات، لأن فيها أشخاصاً مقرّبين فقط من نتنياهو، لا أولئك الذين عملوا لسنوات طويلة تحت الطاولة! عرّاب هؤلاء "المتفانين"، كان كاشدان. ففي تقرير لأمير أورن، في موقع «واللا»، يقول مدافعاً عن دور كاشدان المهمّ، والذي لم يعطه نتنياهو حقّه: «...ممثل وزارة الخارجية، بروس كاشدان، مجهّز هو الآخر بجواز سفره الأميركي، كان يتجوّل في دول الخليج وينشئ علاقات بينها علنية. نائب المدير العام لنسيم بن شطريت، والذي هو اليوم المدير العام نفسه، سافر مع المستشار القضائي، والمدير الأمني في وزارة الخارجية، لفتح ممثليات إسرائيلية رسمية في عمان وقطر والإمارات. وفوّضت إمارة أبو ظبي، الإمارة الكبرى، شقيقتها دبي باستضافة الممثلية الإسرائيلية بفضله». ويستدرك: «لكن الأخيرة أُغلقت في عام 2010، عندما سمح نتنياهو للموساد بقتل القيادي في حماس، محمد المبحوح، هناك». وعلى رغم إغلاق الممثلية الإسرائيلية، «ظَلّ مسؤولون ورجال الأعمال الإسرائيليون يزورون الخليج بشكل متكرّر»، في إشارة إلى كاشدان.
في تقرير آخر ينتقد نتنياهو، يتساءل الصحافي في «القناة 12»، أفيف بوشنسكي: «هل تعرفون ما الذي يثير الغضب؟ أمر الكريديت (الاعتبار) هو ما يثير الغضب. لقد سمعت الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يشكر ولمرتيّن (!) مساعديه الذين صنعوا السلام. وبعده صَعَد نتنياهو، وقدّم الشكر لأولئك الذين صنعوا السلام. ليس لمساعديه الإسرائيليين، وإنما لأولئك المساعدين الأميركيين... تريدون المساعدة؟ مثلاً بروس كاشدان الذي عيّنته وزارة الخارجية الإسرائيلية سفيراً في الخليج من أجل تقديم المصالح الإسرائيلية هناك، وافتتاح الممثليات مباشرة بعد توقيع اتفاق أوسلو، يعمل في صنع هذا السلام منذ ثلاثين عاماً. أنا لا أعرف إن كان كاشدان أساساً قد دُعي إلى حفل إعلان توقيع الاتفاق».
يتقاطع هذا الكلام مع ما قاله محلّل الشؤون الأمنية والاستخبارية في صحيفة «هآرتس»، يوسي ميلمان، الذي انتقد نتنياهو في تقرير بتاريخ 17/8/2020، وتطرّق إلى دور كاشدان المهمّ في التطبيع وعلاقته الوثيقة بحكام الخليج، قائلاً إنه «عندما سَمّم مقاتلو الموساد، القيادي البارز في حماس، محمود المبحوح، عام 2010، كان مبعوث وزير الخارجية، بروس كشدان، حاضراً هناك أيضاً. لم يُكلّف رئيس الموساد في ذلك الوقت، مئير دغان، نفسه عناء إبلاغه مسبقاً بالاغتيال الذي عرف به من التقارير الأجنبية. بعد أيام من ذلك، أخبر محمد بن زايد، كشدان، بأنه يعلم بعدم مشاركته في العملية أو اطلاعه عليها».
هذا فقط أحد الأمثلة الدالّة على عمق الثقة التي، بحسب ميلمان، «بُنيت في السنوات الخمس والعشرين الماضية بين كاشدان، الذي يعمل بعقد خاص ولقبه الرسمي هو (المستشار)، وحكام الإمارات الخليجية». ويضيف إن «كاشدان شخص متواضع، لا يسعى وراء الدعاية ويعمل تحت الرادار... هناك من يستغلّ ذلك، مثل رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ولا يأخذه معه في السفر والاجتماعات؛ في حين يحلّ محلّه رئيس الموساد، يوسي كوهين، وبدرجة أقلّ رئيس هيئة الأمن القومي (مجلس الأمن القومي)، مئير بن شبات».
لكن كاشدان الذي ظهر اسمه أخيراً، له دور متقادم يعود إلى الفترة التي وُقّع فيها "اتفاق أوسلو". ففي تاريخ 1/ آذار مارس/2002، كتب الصحافي الإسرائيلي، بن كسبيت، مجموعة من التقارير الصحافية تحت عنوان «أنت لا تفهم حقيقة الوضع | وزير الأمن (بنيامين بن إلعازار) لرئيس الوزراء (أريئيل شارون): أنت ترتكب خطأ كبيراً». في هذه المجموعة، استعرض بن كسبيت عدداً من الاجتماعات بين محمد دحلان، ومحمد رشيد، ووزير الأمن إلعازار، وغيره من المسؤولين الإسرائيليين، والتي عقدت في فندق شيراتون تاور في مستعمرة رامات غان. يشرح بن كسبيت كيف وصل المحمّدان (دحلان ورشيد) سرّاً، وكيف دخلا إلى الفندق من خلال مصعد الخدمة لا مصعد الزوّار. الهدف من هذا الاجتماع كان التوصّل إلى صيغة ما تُخفّف إسرائيل بموجبها الحصار عن "أبو عمار"، وفي المقابل يقوم الأخير باعتقال المقاومين الذين اغتالوا وزير السياحة الإسرائيلي، رحبعام زئيفي، في فندق ريجنسي في القدس المحتلة.
في خلاصة الأمر، كان المجتمعون الإسرائيليون قلقين، ويريدون بأيّ ثمن وقف العمليات الفدائية في الأرض المحتلة. أمّا المحمدان (دحلان ورشيد) فكانا، بحسب وصف بن كسبيت، «خائبين ومتعبين». لكن هذه الصيغة لم ترضِ شارون، وهو ما دفع بإسرائيل إلى البحث عن مخرج آخر. ما علاقة كلّ ذلك «بصاحبنا» بروس؟ في تقرير ثانٍ في الصفحة نفسها، وتحت عنوان فرعي «السعوديون حققوا اختراقاً»، يتحدّث بن كسبيت عن أنه خلال الشهور الأخيرة، مارس الأميركيون ضغوطاً شديدة على السعوديين في أعقاب تفجير برجَي التجارة في نيويورك، وخاصة أنه تَبيّن أن العدد الأكبر مِمّن قاموا بالعملية هم من السعوديين. من بين تلك الضغوط، طلب الأميركيون دمقرطة الحكم، وتغيير مناهج التعليم، ووقف التحريض. الترجمة الفعلية لهذه الضغوط كانت بتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. من جهة، لا تجد الأولى حرجاً في ذلك، أمّا الثانية فكانت ستستغلّ هذا التطبيع لإظهار نفسها في موقع المنفتحة على السلام، وخاصة أن الأميركيين انتقدوا، لأول مرّة، الحصار الذي مارسته إسرائيل على عرفات. لكن شارون أيضاً لم يكن متشجّعاً بسبب رفض التيار اليميني للفكرة. وهنا جاء دور بروس كاشدان، الذي طلبه في الأسبوع نفسه، وزير الخارجية الإسرائيلي، شمعون بيريز. ويشير بن كسبيت في هذا السياق إلى دور كشدان «رجل وزارة الخارجية الذي يتحرّك بسرّية تامة ويعمل منذ سنوات متنقّلاً في الإمارات الخليجية، ويعرف المسؤولين السعوديين بشكل جيّد جداً».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا