يركّز الغرب، على رأسه الإدارة الأميركية، في الاتصالات التي تجرى حول حركة «أنصار الله» والحرب على اليمن هذه الأيام، على عمق ارتباط الحركة بمحور الممانعة بأركانه كافة، وأسباب هذا الارتباط وأهدافه. وكعادته في كل ملفات المنطقة، يبدي الغرب انزعاجه وقلقه من قوة ومتانة العلاقة (اليمن مع بقية أركان المحور) وتأثيرها في مصالحه ومشاريع الهيمنة والوصاية. ومقابل ذلك، يقدّم عروضاً بديلة أو إغراءات مقابل فك الارتباط، غير أن الجانب اليمني ينظر إلى تلك العروض على أنها مناورات خادعة مكشوفة الغايات والمقاصد. لا تبدي واشنطن، ومعها لندن، ممانعة على حجم الحركة ومساحة انتشارها الجغرافي أو فائض القوة لديها على المستوى المحلي والصراعات الداخلية مع الأحزاب والقبائل اليمنية. يقتصر الاهتمام الأميركي والغربي على الدور الإقليمي لـ«أنصار الله» في المستقبل. تبني واشنطن، ومعها التحالف العربي بقيادة النظام السعودي، دعايتها على تشويه سمعة اليمن بربطه بالتبعية لإيران. لكن الحقائق على الأرض، والسياسات المستقلة للقيادة اليمنية في إدارة الدفاع عن البلد، والدور الذي يضطلع به الإعلام اليمني، تدحض كل محاولات التزوير وتحريف الحقائق، فضلاً عن أن المطلعين على حقائق الأمور يعرفون جيداً أن علاقات أطراف محور المقاومة قائمة على الاحترام والندية في العلاقة ومراعاة الظروف الخاصة في كل بلد، بالإضافة إلى أن كل طرف في المحور تتصدر الإدارة الأميركية كبحه عن تحقيق أهدافه الوطنية، الأمر الذي يلزم أطرافه مجتمعة التعاضد في مواجهة مشاريع الهيمنة الأميركية.
ازداد قلق الإدارة الأميركية في الشهور الماضية من نمو علاقة «أنصار الله» بالجمهورية الإسلامية في إيران. ريبة واشنطن ليست مستجدة، لكن التصعيد الأخير في المنطقة والخطوات اليمنية ــــ الإيرانية، ابتداء من فتح السفارة اليمنية كممثل رسمي عن حكومة الإنقاذ في طهران، واللقاء التاريخي الذي جمع وفداً من قيادة الحركة مع السيد علي خامنئي الشهر الماضي، سلّط الضوء على الأبعاد العميقة لتلك العلاقة، فضلاً عن الروابط العضوية التي بدأت مساراً عملياً واضحاً. تنظر الإدارة الأميركية إلى تطور العلاقة ببالغ الخطورة، باعتبارها تهديداً كبيراً على حلفائها في المنطقة. وقد وضعت علاقة اليمن وإيران في إطار المتابعة الدقيقة للمبعوث الأميركي الخاص بإيران، براين هوك. تظهر مواقف الأخير اهتماماً بالتفاصيل والأبعاد كافة لتلك العلاقة. فهو يصوّب دائماً، في المتابعات اليومية لملف العقوبات على إيران، باتجاه علاقة طهران باليمن، بدعوى أنها تشكّل تهديداً للمصالح الأميركية.
لا ترفض صنعاء التفاوض مع واشنطن من حيث هو «تفاوض مع الأصيل»


دافع القلق الذي تبديه واشنطن هذه المرة هو خشيتها من الارتباط العضوي بين إيران واليمن في ساحة الصراع في المنطقة. النظرة الأميركية هنا ترى أن تحالف إيران الاستراتيجي مع «أنصار الله» يسمح للحركة باستهداف دول الإقليم، ولا سيما بعد توفّر القدرة الصاروخية والطائرات بلا طيار. والأهم، وفق المفهوم نفسه، تأثّرُ بيئات معينة في الداخل السعودي وتشكيل التجربة اليمنية إلهاماً لها في التنظيم والارتباط. في هذا السياق، حذّر هوك قبل أيام من نيّة إيران استنساخ تجربة حزب الله في اليمن عبر «أنصار الله»، وإذا حدث ذلك، فإنّ «الهلال الإيراني سيصبح قمراً كاملاً». أضاف هوك إن إدارة دونالد ترامب تركّز على عكس المكاسب الاستراتيجية لإيران في المنطقة كجزء من حملة «الضغط الأقصى». وفي اليمن، يتطلب هذا «اتفاقاً سياسياً شاملاً يجمع كل الأطراف الشرعية لإنهاء الأزمة الإنسانية ومنع إيران من وضع جذور عميقة». وختم هوك: «إذا فشلت الولايات المتحدة في معالجة استراتيجية إيران الكبرى في اليمن، فسنواجه مخاطر أكبر في المستقبل، بما في ذلك لبننة محتملة للبلاد».
بعد عمليتَي «أرامكو» في ابقيق وخريص، منتصف الشهر الجاري، بدأت واشنطن تتجه صوب اتخاذ مسارات سياسية عملية عبر تقديم طروحات/ إغراءات لفصل الترابط بين صنعاء وطهران، في مهمّة الأصل فيها حرمان العاصمتين قوة الربط بينهما. واشنطن التي تعرف هشاشة النظام السعودي وتآكل قوته في مواجهة اليمن، أكثر من غيرها، تعمل على الدفع لتفعيل المسار السياسي، أو على الأقل السماح للأمم المتحدة بالعمل على تخفيض التصعيد. وهناك مساعٍ غربية جدية لفرض هدنة تسمح للرياض باستعادة التقاط أنفاسها وترتيب أوراقها تمهيداً للمرحلة المقبلة.
تعمل واشنطن على إحياء المسار السياسي عبر التفاوض، وليس لديها إشكال في الاتصال المباشر مع صنعاء، بل هي ترغب في ذلك، وهذا ما أكده مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شنكر، بالقول إن بلاده تتحدث مع جميع الأطراف في اليمن «بمن فيهم الحوثيون» الذين اعتبرهم «جزءاً من المشكلة والحل» في الوقت عينه. وأضاف شنكر: «لم نتحدث مع الحوثيين لغاية الآن، لكننا نتواصل معهم من أجل المفاوضات وسنستمر في ذلك» (معظم الاتصالات تجرى عبر الوسيط العماني). في المقابل، لا ترفض صنعاء التفاوض مع واشنطن، بل تعدّه نزولاً عند رغبتها بالتفاوض مع الأصيل بدلاً من الوكيل (السعودي). لكن اليمن يطالب بضمانات حول جدية التفاوض. بمعنى آخر: لا تريد صنعاء التفاوض من أجل التفاوض، أي الاتصال لغاية الاتصال.
وأخيراً، جاءت ضربة «أرامكو» لتكشف عن اهتراء بنيوي في النظام السعودي على أكثر من صعيد، الأمر الذي عزّز الرغبة الأميركية في إيجاد مسكّنات تبرّد الجرح النازف للحليف الجريح (السعودية)، على أن واشنطن غير راغبة حتى الآن في حل جذري ينهي الحرب على اليمن.