لو كان للفرجة، بسطوتها على المشاهد، أن تكون صائبة بتوقيتها ومكانها، لكان عليها أن تستبق مونديال 2022، وأن تظلّ في قطر على أن تتّجه صوب السنوات الماضية التي تلت الإعلان عن استضافتها الحدث الرياضي. ولكي تتمّ الفرجة، لا بدّ من أن ترتكز على أحداث استثنائيّة بمواعيد وأمكنة محدّدة. نقصد بالحدث أو الأحداث السابقة على المونديال، الموت الذي كان يهجم في أوقات وأمكنة عشوائيّة، طوال عقد كامل، على العمّال الآسيويين الذين بنوا سبعة ملاعب كرة قدم كبيرة. كان على الفرجة أن تكون مصوّبة إلى أجساد العمّال القتلى الذين تجاوز عددهم الـ 6000، ليس لأن على المشهد أن يكون تراجيديّاً بالضرورة. ما كانت هذه الأحداث لتستحوذ على مرمى النظر بكل الحالات، لأن العدد الكبير من القتلى، الذي قد يفوق الخسائر البشريّة نتيجة كارثة بيئيّة أو تفجير إرهابي، يُفقِد، بسبب تكراره المرير ومن ثمّ بداهته، الفرجة أحد شروطها الأساسيّة: الندرة، ندرة الحدوث.
(إليز زخور)

لذلك لا سبيل للعودة إلى الوراء، ولو كنا نسعى في هذا المقال خلف ذلك الوراء تحديداً. فقد أعلن موعد الفرجة النهائي للمونديال في 20 تشرين الثاني الحالي، بعد تأجيله إلى بداية فصل الشتاء بسبب حرارة الطقس المرتفعة. لا نبتعد عن الرياضة، إذ نستهلّ مقالنا بوفيات جماعيّة ذابت وجوه موتاها في الأرقام الإحصائيّة. لا نبتعد عن الرياضة، بل نظلّ في سياقها ونمسّ أصلها الغابر. فهذه الميتات الجماعية تحاكي، وإن عن غير قصد، الممارسات الرياضية التي كانت سائدة في الأزمنة القديمة، في وقت كان فيه عنف الحكومات والسلطات ظاهراً للعيان، دنيوياً ومرئياً على السواء. المثال الأكثر فجاجة على ذلك هو حلقات المصارعة الرومانيّة، بطابعها الرياضي الظاهر، لكن بسيل خياراتها الدمويّة لأساليب قتل المجرمين: بالسيف، بالحرق بالنار، وبرمي أجساد المتّهمين إلى الحيوانات المفترسة في الحلبات الشاسعة. فرجة بداعي التسلية؟ بهدف ترهيب المتفرّجين صقلاً لقوّة الإمبراطورية وسلطاتها؟ تختلف الإجابة في قطر، حيث تساقط الجثث يبدو المعبر إلى الفرجة الرياضية الأضخم هذه السنة.
يُقال في الفرجة أيضاً، إنها الشقّ أو المسافة التي تباعد ما بين شيئين، وفي حالة المونديال ستكون الشقّ الذي يباعد ما بين جسدين صنعا وسيصنعان الحدث المنتظر: الجسد الرياضي، والجسد العامل/ البناء.
يتّجه عدّاد الإحصاءات صعوداً، كلّما شرع في احتساب عدد القتلى من العمال القادمين من النيبال والهند وباكستان وبنغلادش وبلدان أخرى. تبذل الإحصاءات جهداً مضاعفاً، إذ تتجاوز الأرقام، لتورِد، بعد ذكر جنسياتهم، معلومات تصف طرق الموت مثل الانتحار، والسقوط من على شاهق، والإصابة بنوبات قلبية نتيجة ضربات الحرارة والشمس.
تحتّم طرق موت العمال المهاجرين في قطر علينا فصلها، رغم فجاجتها، عن الموت المرئي في الأزمان القديمة، لكن ليس قطعيّاً. إذ إنها تظلّ تتراوح ما بين حضورها وغيابها، حقيقة حصولها وعدمه. تراكم جثث العمال رمزيّاً، في محيطات الملاعب قيد الإنشاء تستعيد سمات من العنف القديم المذكور أعلاه في الملاعب الرومانيّة. لدى تهاوي أحد العمّال من المرتفعات، لن يتلقّف هذا السقوط ويشهد عليه إلا المارّة، أو العمال الآخرون في موقع البناء، غير أن «الفرجة» بمعناها ووقعها سرعان ما ستندثر وتمحى معالمها كما لو أنها جريمة مثاليّة أخرى، خوفاً من تصدّرها أخبار الساعة. في المقابل، حافظت هذه الأجساد في بعض الأحيان على سمتها الظلّية تماماً. شنق هؤلاء أنفسهم في مساحات محجوبة هي الأماكن السكنية المشتركة على هامش المدينة. انتظروا خروج رفاقهم من الغرف المكتظة للانقضاض على أعناقهم الخاصّة، للانتقام الذاتي من أنفسهم. كان العامل النيبالي غال سينغ راي يبلغ من العمر 20 عاماً حين انتحر بعد أسبوع من وصوله إلى قطر، للعمل في التنظيف في مخيمات العاملين في بناء أحد ملاعب كرة القدم التي سيستضيفها المونديال. رفاقه في السكن، قالوا إنه مدّ شريطاً سميكاً من المروحة المعلّقة في السقف، ولفّه حول رقبته من دون أن يتفوّه بكلمة لأحد. بعكسه، أسرّ العامل الهندي ماندالودجي راجيندرا برابو لرفاقه مراراً بأنه يشعر بالتعب من كلّ ذلك. وكان يختصر بـ«ذلك» ظروف العمل الهدّامة في السنوات التي قضاها في قطر. بعدها وجده رفاقه جثّة هامدة متدلّية من سقف غرفتهم.
حافظت الأجساد المنتحرة في بعض الأحيان على سمتها الظلّية تماماً. شنق هؤلاء أنفسهم في مساحات محجوبة هي الأماكن السكنية المشتركة على هامش المدينة


في قطر أو تحت أي من ظروف العمل المماثلة، يعجز العامل عن الانتقام من الظروف الخارجيّة التي تخنقه، غير أنه يعجز كذلك عن استئصال رغبة الانتقام نفسها من داخله، لذلك يتحوّل الانتقام نحو الذات، كما يصف الفيلسوف الكوري الجنوبي بيونغ شول – هان الذات في مجتمع الإنجاز الذاتي الرأسمالي الذي يستحيل مجتمعاً للاستغلال الذاتي. فحين تحترق الذات نتيجة الاستغلال المفروض عليها، تطوّر ميولاً عدوانيّة داخليّة قد تفضي في النهاية إلى الانتحار. لا يأتي الاحتراق النفسي والانتحار من سراب. إنه تراكم العنف والقمع وشروط العمل الدمويّة في العصر الحديث. لن يرفع أحد السكين إلى رقبتك، ولن تُدفع من الخلف نحو الهاوية. يُترك للعمّال خيار السير مغمضي العيون والإرادة نحو حتفهم الأوحد. لم يعد العنف يتخذ الشكل المرئي الذي كان عليه في السابق، بل بات ينسحب في الخفاء ويتوغّل إلى مسامات الجسد وفق توصيف شول - هان. إن المسامات التي تتشرّب العنف وتمتصّه، تبثّ في المقابل عرقاً من التعب، من الحرّ أو القلق أو الخوف، أو حتى بمجرّد جلوسها واسترخائها يائسة تحت رطوبة قطر الحارقة. ثمّة عناصر فيزيائية أخرى يفترض أن تحيل إليها إفرازات الجسد وروائحه، منها التعرّق بفضل ممارسة الرياضة، أو الجهد البدني في الأعمال الشاقّة كالبناء. سيقول الشامم إن العرق واحد، بفضل رائحته المنفّرة. هذا ما يفعله العرق بوصفه إفرازاً مقزّزاً ومطروداً من أجساد كلّ الثقافات والمجتمعات. يخرج العرق من المسامات والفتحات التي تعتبرها عالمة الأنثروبولوجيا البريطانية ماري دوغلاس مواقع لهشاشة الجسد، بوصفها معبراً للإفرازات الداخليّة، التي ستكون بعد لحظات جزءاً من تمثيل الذات في الخارج. من هنا، تحمل المسامات تهديداً يصعب ضبطه أحياناً مثلما تستحيل السيطرة على العرق تحت حرارة مرتفعة، أو السيطرة على الحاجة للدخول إلى الحمام. رمزياً، تؤدّي إفرازات كهذه مثل العرق برائحته دوراً حاسماً في التقسيمات الاجتماعية والأخلاقيّة، بفصلها المدنّس عن المثالي، الجسد العليل عن الجسد الصحيح، المقبولين عن المستبعدين. مع ذلك، تهدّد هذه الإفرازات تمثيل الأجساد كافّة، بطبقاتها وأعراقها، وبالتالي تؤمّن المساواة بينها، كما يفترض أن يكون عليه الحال بالنسبة إلى جسدَي المونديال: «جسد» لاعبي منتخبات كرة القدم، و«جسد» العمّال الآسيويّين تحديداً، ممن انقضى على عملهم في التحضير للحدث الرياضي أكثر من عقد كامل.
يفصل الباحث الفرنسي جيل رافونو بين أنواع العرق، فالعصر الحديث الذي يمجّد الجسد والصحّة، يتساهل مع العرق الرياضي، الذي لا تتوانى إعلانات الماركات الرياضيّة عن استخراجه من الجسد بكثافة أمام أعين المشاهدين. رغم تهديده النظام والتمثيل الذاتي، إلا أن العرق يبدو مقبولاً وضمن سياقه الطبيعي في الملاعب الرياضيّة. فبحسب رافونو، يعتمد التقليل من تأثير العرق أو من اعتباره منفّراً، على عوامل عدّة لا تقتصر على السياق الذي يتمّ فيه إفراز العرق فحسب، مثل الملاعب الرياضيّة، بل تأخذ بعين الاعتبار المكانة الاجتماعية للشخص الذي يتم الحكم عليه، إن كانت طبقيّة أو عرقيّة أو جندريّة. حين يمنح أحد اللاعبين النجوم قميصه الرياضي لأحد المشجعين المهووسين، لن يتردّد هذا الأخير في الاحتفاظ به، رغم بلله أو رائحته. وغالباً ما يصل به الأمر إلى الامتناع عن غسله، رغبة في الحفاظ على تعرّق اللاعب، والذي يعادل القبض على عنصر حيّ من هويّته. بهذا يكون اللاعب قد ربح على مستويين إن كان قد ربح المباراة، وذلك بإفراغه العرق من سمته «المدنّسة» أو «المنفّرة»، حين يحوّله المشجّع إلى سائل مرغوب، إلى سمة من السمات الهويّاتيّة الإيجابيّة.
مفارقة المونديال المنتظر، أنه سيُقام بداية فصل الشتاء في الشهر الحالي، بعد تأجيله لأسباب مناخيّة تتعلّق بالحرارة المرتفعة وتأثيرها على أداء اللاعبين. ومثلما بذلت حكومة قطر ما في وسعها للتستّر على الوفيات الجماعيّة للعمّال، حرصت كذلك على بناء أنظمة تكييف داخل الملاعب الرياضيّة لتخفيض درجة الحرارة. ورغم التكاليف الباهظة، لن يحمي التكييف أجساد اللاعبين تماماً، مثلما يعجز تكييف النوادي الرياضيّة المغلقة عن الحدّ من تعرّق المتمرنين. بالنسبة إلى الرياضيين، يعدّ العرق مصيراً محتّماً بعد انقضاء الدقائق الأولى من وجودهم في الملعب، لكن التخوّف الأكبر يكمن في تأثير الرطوبة المرتفعة على أدائهم الرياضي. هذا ما تحذّر منه الدراسات الطبيّة التي صدرت قبل المونديال. دراسات تتقفّى أجساد اللاعبين، تداريها، تلقّن النصائح باستمرار، حتى إنها تطارد الدم الذي في العروق. مثلاً، تشير دراسة منشورة في مجلّة MOJ الطبية للرياضة سنة 2021 إلى أن تأثير الرطوبة يفوق تأثير درجات الحرارة المرتفعة علي أجساد اللاعبين الأوروبيين. تحتسب الدراسة الجهد الذي ستتكبّده الأجساد أثناء اللعب في رطوبة قطر، حيث ستصرف الدم إلى الوجه لترطيبه والحفاظ على برودته، ما سينتقص من الدم الكافي الذي تتطلّبه العضلات للقيام بمهامها. تستبق هذه الدراسات أي إصابة للجسد الرياضي، كما لو أنها تتلقّفه بشباكها قبل سقوطه أو حتى إصابته. إذا قمنا، متّبعين الطريقة نفسها، بالبحث والقراءة عمّا كتب ونشر عن أجساد العمال الآسيويين، فإن عدّادات الموت لا تبلّغ عن الجسد إلا حين يصير جثّة. أبرزها وفيات ونوبات قلبية سبّبتها ضربات الحرارة للعمال الذين كانوا مجبرين على العمل لما يقلّ عن عشر ساعات في النهارات التي تصل فيها درجات الحرارة في قطر إلى 45 درجة مئويّة. لم يمنع ذلك الحكومة القطريّة من الإصرار على تصنيفها بالميتات الطبيعية، متجاهلة بذلك دراسات أجرتها منظّمة العمل الدوليّة، وأكّدت فيها أن النوبات القلبيّة يسبّبها ضغط الحرارة المرتفعة خلال أربعة أشهر من السنة (بين شهرَي حزيران وأيلول).
قد لا نجد مبرّراً قاطعاً للانعطافة الدمويّة التي تشهدها نهاية فيلم «باراسايت» (Parasite). وإن شرعنا في البحث عن سبب لجريمة القتل التي تفوّر الدم في حديقة الفيلا، فسيعيدنا ذلك تلقائيّاً إلى المشهد الذي يسمع فيه الأب/ القاتل، في الخفاء، أصحاب المنزل الأثرياء وهم يفصحون عن اشمئزازهم من رائحته. في الفيلم، يقلّص المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون – هو الصراع الطبقي إلى إفراز آخر من إفرازات الجسد وروائحها. ولا يترك لنا مجالاً للتعرّف إلى ماهيّة الرائحة (ربّما نظراً إلى صعوبة وصف الروائح عادة)، فقط يضع وصفاً بليغاً على لسان الرجل الثري بأنها تتجاوز كلّ الخطوط التي تحيل بدورها إلى الحواجز الفاصلة ما بين طبقتَي العائلتين. وحدها الرائحة هي ما يجتاز الحدود بين الطبقتين، لا الكلام، ولا العناق، لكن يمكن أن نضيف إليها القتل: اليد حين تمتد خلسة نحو أعناق الأثرياء. يعمل العرق ورائحته على تدعيم التفرقة الطبقية بحسب السوسيولوجي الألماني جورج سيميل، حيث يُفترض أن تنبعث من أبناء الطبقات الدنيا رائحة كريهة، وخصوصاً من الفلاحين والعمال الذين يعتقد الأثرياء، على سبيل التنميط، أنهم يتجاهلون الاستحمام باستمرار، وليس لأنهم يبذلون جهداً جسدياً في مهنهم. تلفظ حاسّة الشمّ وتهمّش وتقتل اجتماعيّاً. بناءً على الانزعاج من الرائحة يتمّ اتخاذ المسافة الاجتماعية الماديّة من أصحابها، بعد تقليص وجودهم بأكمله إليها مع الإشاحة عن أي حضور داخلي أو عاطفي. إنه قتل رمزي يعتمد على الإبعاد، في حين أن الجسد يكون حيّاً. بعد تعرّضه لضربة الحرارة الصاعقة، لا يموت العامل مغطّى بدمه بل بعرقه. يؤدّي العرق في حالة عمّال قطر دور الإبعاد الفعلي بعدما كان يؤدّي دوراً بالتهميش الرمزي، وذلك حين يتحوّل تعرّق أجسادهم إلى إنذار أخير قبيل انطفائهم الأبدي.