المهاجرون يَحملون صليب فرنسا، هل من يساجل في ذلك؟ 17 لاعباً من أصل 23 في المنتخب الفرنسي لكرة القدم المشارك في مونديال روسيا هم من أصول غير فرنسيّة، وغالبيّة هؤلاء العظمى من أصول أفريقيّة. إمّا ولدوا في فرنسا وتحديداً في ضواحي العاصمة باريس، أو جاؤوا إليها مع آبائهم، هرباً من واقع مأساوي ساهمت فرنسا نفسها بصُنعه هناك في بلادهم. لاعبون هم اليوم قريبون من ترصيع قميص المنتخب الفرنسي بالنجمة الثانية، بعد نجمة أولى زرعها المهاجرون الأوائل، زين الدين زيدان وليليان تورام وباتريك فييرا ومارسيل ديسايي وغيرهم الكثير. المهاجرون مقبولون حين يصنعون الإنجازات، وإلا فسهام الانتقادات جاهزة.لطالما كانت الضواحي في فرنسا في الإعلام التقليدي مرادفاً للعنف والبطالة والمخدرات. أمّا اليوم لم تَعد كذلك، في مونديال روسيا على الأقل. بات يُنظر إليها على أنّها حدائق مجدٍ، يخرج منها سحرة كرة القدم كما في البرازيل والأرجنتين. من قرية بوندي في الضاحية التابعة لإقليم «سان دوني» في «إيل دو فرانس»، خرج كيليان مبابيه، معشوق الجماهير الفرنسيّة من عائلة محبة للرياضة. فوالده المدرّس جاء من الكاميرون، أما والدته لاعبة كرة اليد فهي مهاجرة من الجزائر. زاد كيليان من توهج «مدينة الأنوار» باريس. في بوندي يعيش 53 ألف نسمة معظمهم من المهاجرين «غير المحبوبين» ولو من «تحت» طاولة المجتمع الفرنسي. ولكن مبابيه مقبول من الجميع لأنّه «أمل فرنسا» في رفع كأس العالم على الأراضي الروسيّة، وإعادة أمجاد العام 1998. مهاجرون كمبابيه وزين الدين زيدان يحققون الإنجازات لفرنسا، وتالياً فهم مقبولون، أمّا غيرهم فلا. في ضواحي باريس 30 ألف مدرب واختصاصي رياضي لأكثر من 235 ألف لاعب مسجّل رسميّاً، أكثر من ثلثهم دون الثامنة عشرة من العمر. جميعهم يريدون أن يكونوا كيليان مبابيه.
معظم لاعبي منتخب الـ«بلوز» أو الـ«تري كولور» كما يسمّى، لديهم أصول أفريقيّة. بول بوغبا من أبوين غينيّن، أمّا الحارس ستيف مانداندا فهو من مواليد كينشاسا في الكونغو الديمقراطية وكذلك ستيفن نزونزي. سامويل أومتيتي ولد في الكاميرون، ووالدا عادل رامي مغربيّان، بليس ماتويدي من أصول أنغوليّة، وعبقري خط الوسط نغولو كانتيه يحمل الجنسيتين الفرنسيّة والماليّة، كما أن أصول عثمان ديمبيلي تعود إلى جزيرة موريشوش في المحيط الهندي، وولِدَ كورينتين توليسو في توغو. نجوم يدافعون عن ألوان المنتخب الفرنسي، انقسم حولهم الشارع الفرنسي بين المرحّب بتشكيلة تضم كلّ هذا الخليط، كنوع من الدلالة على تجانس المجتمع الفرنسي وغناه الثقافي، وبين يمين متطرف يرفض أن يرى منتخب 6 من أعضائه فقط يحملون الدم الفرنسي الصافي في عروقهم. وللمفارقة فإنّ معلّقين رياضيين فرنسيين لا يلفظون أسماء لاعبي منتخبهم على النحو الصحيح. وهذا ما كشفته صحيفة «Le Monde» في تقرير نشر بتاريخ 6 تموز/يوليو 2018. وقال المقال إن بعض المعلّقين يلفظون أسماء نغولو كانتيه وكيليان مبابيه بطريقة خاطئة، وكذلك أومتيتي وغيرهم، معتبرة أن بعضهم يحاول «تقليد» اللهجة الأفريقيّة في تهجئة أسماء اللاعبين من دون أن ينجح الأمر. مفارقة غريبة دفعت الاتحاد الفرنسي واليويفا في بعض الأحيان إلى تنظيم دورات للمعلقين للفظ الأسماء على نحوٍ صحيح.
إنجازات فرنسا بدأت عندما قرر جاكيه ضم أصحاب الأصول الإفريقيّة إلى المنتخب (اريك فيفربرغ ــ أ ف ب)

موقع Breizh - info الفرنسي القريب من اليمين المطرف، نشر بدوره مقالاً في 19 أيار/مايو الماضي يحمل عنوان «كأس العالم... أقليّة من ذوي البشرة البيضاء في منتخب كرة القدم الفرنسي». «المكتوب يُقرأ من عنوانه»، كما تلاحظون. انتقد المقال بصورة قاسية وتحمل الكثير من العنصرية، إدارة المنتخب الفرنسي، التي اختارت أكثر من ثلث المنتخب من المهاجرين، بينما لا يوجد سوى 6 أو 7 لاعبين من أصول فرنسيّة خالصة داخل المنتخب المشارك في مونديال روسيا. صوّب الكاتب على اليسار والمهاجرين والمسلمين، وجاء في المقال أن هذه الاختيارات لن تجدي نفعاً لأن المنتخبات الأفريقيّة لا تحقق نتائج إيجابيّة في البطولات الدوليّة. خاب ظن اليمين المتطرّف، المهاجرون وصلوا بفرنسا إلى النهائي وباتوا قريبين من اللقب، نظرة اليمين لم تكن فنيّة بقدر ما هي عنصريّة.
الجمهور الفرنسي، بدوره، يدرك جيّداً أهمية الدور الذي يلعبه اللاعبون من أصل أفريقي في المنتخب الفرنسي، فاختار أغنيةً أفريقيّة للمدرجات في روسيا، أنشدها سابقاً في يورو 2016. الجماهير الفرنسية تنشد قبل اللقاء وخلاله وعند تسجيل أي هدف أغنية فرقة «ماجيك سيستام» الإيفواريّة (Magic in the air) لبثّ الروح في اللاعبين ودفعهم على تقديم الأفضل. المهاجرون هم روح فرنسا ونبضها، حتى الرئيس إيمانويل ماكرون يدرك ذلك تماماً، لذلك طالب الشعب النيجيري (بوقاحة رهيبة) في آخر زيارة إلى هناك بأن يساندوا المنتخب الفرنسي في نهائيات كأس العالم، علماً أن نيجيريا كانت متأهلة وتلعب المونديال. نيجيريا أقصتها الأرجنتين، والأخيرة خرجت على يد فرنسا. وفي ذات السياق أعربت الصحافة في بوركينا فاسو عن سعادتها بنتائج المنتخب الفرنسي كونه يضم عدداً كبيراً من اللاعبين أصحاب الأصول الأفريقيّة. وهذا أخذ ورد طويل.
ينقسم الشارع الفرنسي بين مرحّب بفكرة ضم اللاعبين المجنسين إلى المنتخب ومعارض لها، ولكن الأكيد أن إنجازات فرنسا على صعيد المنتخب بدأت عندما قرر المدرب إيمي جاكيه ضم عدد من اللاعبين أصحاب الأصول الأفريقيّة إلى منتخب عام 1998 وقادوا فرنسا حينها إلى اللقب الأغلى والنجمة الأولى، واليوم المهاجرون هم من حملوا فرنسا إلى نهائي كأس العالم، وقبل عامين قادوها إلى نهائي الـ«يورو». المهاجرون يحملون صليب فرنسا وأحلامها، أحلام أكثر من 70 مليون فرنسي على اختلاف مشاربهم، رغم أن النظرة تبقى للضواحي بأنها لا تضم إلا الفقراء والمجرمين ومن هم غير مرغوب بهم. لا تتبدل النظرة إلا حيال من يصنع الإنجاز، يريدون زيدان 1998 ومبابيه 2018. ولأن من يخرجون من الضواحي يدركون حقيقة إهمال النظام لها، فهم لا يتنكرون لتلك الأصول، فعاد مبابيه ليدعم مدرسته في منطقة بوندي وكذلك فعل عدد من زملائه، الضواحي ضحية التهميش والرفض ليس أي شيء آخر. وفي كرة القدم يصح على فرنسا اليوم ما يقوله الكاتب الأورغواياني إدواردو غاليانو في كتابه كرة القدم في الشمس والظل: «لحسن الحظ، ما زال بإمكاننا أن نرى على أرض الملعب، حتى وإن اقتصر ذلك على مناسباتٍ قليلة فقط، لاعباً وغداً وقحاً، يخرج عن النص، ويرتكب فاحشة المراوغة ليتخطّى جميع مدافعي الخصم، الحكم، والجمهور في المدرجات، وكل ذلك بغرض تحقيق الفرحة الشهوانية، التي تمنحها المتعة المحظورة بمعانقة الحرية». مهاجرو فرنسا يهبون الحريّة لكل الشعب الفرنسي، يصنعون الفرح ومن دونهم لما كان هناك ألقاب ولا تتويجات، الضواحي هي المدن، ومنها يخرج السحر والإنجازات لكل فرنسا وكل العالم. ولا يمكن لفرنسا أن تفوز بدون هؤلاء، حتى وإن فازت عليهم، ولعبوا باسمها، بدلاً من أن يكون لهم الحق والقدرة على أن يلعبوا لبلادهم الأصلية.