يبدو أن موجة "المد الوردي" التي رافقت العقد الأول من القرن 21 في أميركا اللاتينية بدأت تنحسر مع تزايد ضعف اليسار في بوليفيا، وهزيمته في الانتخابات البرلمانية في فنزويلا، وانتخاب رئيس ليبرالي في الأرجنتين، وفضائح الفساد في تشيلي، وقرار الرئيس الإكوادوري، رافايل كوريا، بعدم الترشح لانتخابات 2017... والآن ما جرى في البرازيل. وقد ترافق كل ذلك مع الزيارة "التاريخية" للرئيس الأميركي، باراك أوباما، لكوبا، قبل توجهه إلى الأرجنتين.
لكن المرحلة السياسية الجديدة التي شهدتها أميركا اللاتينية مع بداية القرن، بانتقال العديد من دولها من حكم أطراف يمينية مدعومة أميركياً إلى حكم أطراف يسارية "شعبوية"، لا تنتهي مع التبدلات التي تشهدها اليوم. ويمكن إدراج ذلك ضمن الامتداد الطبيعي للأحداث.
لعبت الحكومات اليسارية دوراً فاعلاً في تحسين الوضع المعيشي في بلادها عبر إعادة هيكلة الاقتصاد الكلّي، مستغلة الارتفاع الشديد الذي طرأ على أسعار السلع عالمياً، في ظل وفرة الموارد الطبيعية، وأهمها النفط. وقد أدى ذلك إلى إنشاء اقتصادات تعتمد على التصدير بشكل مهم لتمويل برامج اجتماعية وتنموية.
تُعَدّ أميركا
اللاتينية ساحة
صراع بين الولايات المتحدة والصين

وكانت الأحزاب اليسارية، التي طرحت نموذجاً جديداً للاقتصاد يشبه "رأسمالية الدولة" بحيث تصرف الأرباح في مشاريع تنموية، محظوظة لناحية صعودها في وقت كانت فيه أسعار السلع تزيد وأسعار النفط في حالة جيدة، ما سمح لها بوضع حد لسلطة الرأسماليين. وتمكّنت فنزويلا (وغيرها) من وضع اليد نسبياً على إنتاج النفط وجعله مصدراً أساسياً للأرباح (ما سيُسهم بتأجيج الأزمة لاحقاً عقب هبوط أسعاره)، وتوجيه المكاسب إلى سياسات خفض معدلات الفقر، وزيادة معدلات التعليم، وغيرها.
كذلك سمح الانفراج الاقتصادي في تلك الفترة للمصارف المركزية في دول أميركا اللاتينية بتجميع احتياطات كبيرة من العملات الدولية (بعد التعلم من تاريخ طويل مع الازمات)، ما ساعدها على احتواء الآثار المباشرة لأزمة عام 2008.
لكن الأزمة طاولت تلك الدول من ناحية الصين التي كانت من أهم المستوردين لصادرات أميركا اللاتينية. البرازيل مثلاً كانت تعتمد بشدة على الزيادة في الثروة التي تأتي من طريق الصين، وذلك لإعادة توزيع الثروات وهيكلة قواعد اللعبة السياسية والاجتماعية. ويشرح الاقتصادي اليوناني ووزير المال السابق، يانيس فاروفاكس، أنه بعد أزمة 2008، واضمحلال الطلب الأميركي والأوروبي على صادرات الصين، اضطرت الأخيرة إلى استبدال طلبهما عبر "صنع فقاعات في الداخل" (دعم الاستثمار عبر خلق فقاعات في السلع والعقارات) بهدف إعطاء أميركا وأوروبا فرصة لتعيدا تأهيل واقعهما، وقد أسهم ذلك في أن تتمكن الصين من الاستمرار بطلب الصادرات من أميركا اللاتينية. لكن بما أن أوروبا أخفقت في إعادة تأهيل اقتصادها، وظلت أميركا غير قادرة على تعزيز النمو المحلي الحقيقي، فقد بدأت في 2015 فقاعة الصين بالانكماش، ما أثّر سلباً في اقتصادات أميركا اللاتينية. وصاحب ذلك، انخفاض أسعار السلع والنفط في العالم.
ويمكن اعتبار أميركا اللاتينية كإحدى ساحات الصراع بين أميركا والصين. وعلى الرغم من أن واشنطن بدت وكأنها تخلّت عن تلك الساحة في سنوات الصعود الاقتصادي لانشغالها بالشرق الأوسط، لكن "عين الإمبراطورية لا تنام". فعقب تغيّر طبيعة السياسة الخارجية الأميركية مع إدارة باراك أوباما، من الحروب النيوليبرالية (الاقتصادية منها والسياسية) إلى ديبلوماسية "فك الحصار" التي ترافقها سلسلة من الشروط المشتملة على تغيير هيكلية الاقتصادات، كان من شأن ذلك إعادة إنتاج هيمنة الولايات المتحدة، عبر أدوات جديدة.
وعلى الرغم من الأخطاء المتراكمة لحكام أميركا اللاتينية منذ 2003، التي أنتجت في بعض الأماكن حراكاً اجتماعيا مضاداً، إلا أن ذوي التوجهات الليبرالية استغلوا تداعيات الأزمات الاقتصادية وتجدد الاهتمام الأميركي بالمنطقة، ليعودوا عبر المؤسسات والآليات الدستورية وعبر معارضات شعبية، تمكّنت من هزّ الحكم اليساري وإعادة "الليبرالية" إلى أميركا اللاتينية.