أعادت التطورات العسكرية المستجدة في إقليم كاراباخ الأرمني، التي وقعت ليل الجمعة ــ السبت (1 و2 نيسان الحالي)، الى الذاكرة الحرب الأرمنية الأذرية بين نهاية ثمانينيات القرن الماضي وبداية تسعينياته، والتطورات العسكرية الأخيرة عبارة عن مواجهة محدودة بين الجيشين على حدود الإقليم المتنازع عليه، وقد أوقعت، بحسب مصادر كل من البلدين، حوالى 18 قتيلاً و35 جريحاً من الطرف الأرمني، و12 قتيلاً من الطرف الأذري، إضافة الى تدمير مروحية، قبل أن تعلن أذربيجان وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد، أمس، وهو ما كذبته أرمينيا. فالمؤكد أن الوضع على الأرض غير محسوم. وتعدّ هذه المواجهات الأخطر منذ وقف إطلاق النار بين الطرفين سنة 1994، نظراً إلى أن التوترات الحدودية التي تترجم بإطلاق النار وبعض رشقات المدفعية بين الطرفين كانت تحدث بشكل دوري.
وبالعودة الى أصل النزاع تاريخياً، فالإقليم الذي تبلغ مساحته حوالى 11430 كلم مربعاً، ويسكنه حوالى 150 ألف أرمني، هو أرض أرمنية تاريخياً. خضع الإقليم للسلطتين الفارسية والعثمانية، قبل أن تحتله روسيا خلال حملتها على إيران لمدة قصيرة سنة 1896، الى أن ألحقته، وإن ككيان تابع للإمبراطورية الروسية، بموجب معاهدة "غولستان" سنة 1813، التي وضعت حداً للحرب الفارسية الروسية الممتدة من 1804. ضم الإقليم رسمياً الى روسيا سنة 1822، وألحق سنة 1866 بحاكمية "اليزافيتبول" الروسية، التي أنشئت في العام نفسه، وتضم مناطق من غرب أذربيجان، وبعض المناطق الأرمنية الملاصقة للحدود، وفق التقسيم الحالي.
شكلت الحرب العالمية الأولى، والثورة البلشفية في روسيا سنة 1917، ومعها تصدع الإمبراطورية فراغاً سياسياً في القوقاز، سمح بتشكيل جمهوريتَي أرمينيا الديموقراطية وأذربيجان الديموقراطية بين 1918 و1920. وشكلت هذه الظروف في الوقت نفسه مناسبة لاستعادة الصراع على الإقليم بين الجمهوريتين الجديدتين.
شكل قبول البريطانيين الموجودين في المنطقة بحكم حملة القوقاز خلال الحرب العالمية الأولى، بتعيين حاكم أذري على كاراباخ إيذاناً ببدء سلسلة مجازر ضد الأرمن، وصولاً الى تدخل الجيش الأرمني في آذار 1920، بعد مجزرة ضد سكان "شوشي" الأرمن. يذكر أن ممثلي الإقليم كانوا قد قبلوا بالسلطة الأذرية مؤقتاً في 22 آب 1919، بانتظار الحل النهائي في مؤتمر السلام في باريس.
لكن التطورات اللاحقة في القوقاز غيّرت المعطيات، ففرض البلاشفة سلطتهم الجديدة على أذربيجان في نيسان 1920، ما استدعى انسحاب القوات الأرمنية من كاراباخ، وذلك قبل أن يفرضوا سلطتهم على أرمينيا في تشرين الثاني من العام نفسه.
أمام مسألة القوميات في القوقاز تحديداً، اقتضى الحل السوفياتي بضم كاراباخ الذي يتكون سكانه من 94% من الأرمن الى أذربيجان السوفياتية في 4 تموز 1921، قبل تحويله الى مقاطعة مستقلة من ضمن جمهورية أذربيجان السوفياتية سنة 1923، يفصل بينها وبين أرمينيا ممر "أذري" تسكنه أغلبية سكانية أرمنية.
كانت السلطة السوفياتية بمثابة ثلاجة جمدت الصراع القومي على الإقليم بين أرمينيا وأذربيجان ستة عقود ونيف، كما جمدتها في أكثر من منطقة خاضعة للسلطة السوفياتية، قبل أن يعود الصراع بين البلدين على خلفية تداعي الاتحاد السوفياتي.
عاد إذاً الصراع بين البلدين على خلفية انهيار الاتحاد السوفياتي خلال حرب استمرت ست سنوات بين 1988 و1994، وهي حرب كلفت حوالى 30 ألف قتيل ومئات آلاف المهجرين، معظمهم من الأذريين في نزاع على إقليم يشكل حوالى 20% بالمئة من مساحة أذربيجان، و30% من مساحة أرمينيا.
بدأت الحرب بإعلان الإقليم انفصاله عن أذربيجان في 20 شباط 1988. الجدير بالذكر أن ستين سنة من الضم لأذربيجان لم تغير جدياً التركيبة السكانية للإقليم، بالرغم من مجهود الاستيطان السكاني الأذري الذي كان يهدف إلى قطع الطريق على أي مطالبة سياسية أرمنية مستقبلياً. فقد أظهر إحصاء 1989 أن الأذريين يشكلون 22% من السكان، مقابل حوالى 78% من الأرمن، بعدما كانوا 94% في العشرينيات.
بعد إعلان الإقليم الانفصال، قامت أذربيجان في حزيران من العام نفسه بإعلان ضم الإقليم إليها. تبعته جولات عنف؛ تخللتها مجازر ضد مدنيين أرمن، منها في باكو عاصمة أذربيجان، ويقدر عدد الأرمن الذين كانوا يعيشون في أذربيجان حينها بحوالى 145 ألفاً.
تطور الوضع أكثر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونيل كل من أرمينيا وأذربيجان استقلالهما سنة 1991، إذ قامت الجمعية الوطنية في كاراباخ بإعلان الاستقلال التام عن أذربيجان في 2 أيلول 1991، تبعه استفتاء ــ قاطعه الأذريون من سكان الإقليم ــ أقر الأمر بأغلبية ساحقة في كانون الأول. فردّت أذربيجان بإلغاء وضع الإقليم المستقل في 26 تشرين الثاني 1991.
لم تفلح محاولات أذربيجان المدعومة من تركيا في استعادة الإقليم بين 1992 و1993، بفضل الدعم الأرمني المباشر والموقف الروسي. أدى الانتصار العسكري على الأرض الى دفع أذربيجان إلى التفاوض، وبالتالي إلى وقف لإطلاق النار في أيار 1994، والبحث عن حل نهائي في إطار "مجموعة مينسك" برئاسة روسية، فرنسية أميركية مشتركة، والمجموعة منبثقة عن مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، لم تثمر حتى اليوم، ولن تثمر على الأرجح في ظل إدارة روسية للصراع، تتعمد الإبقاء على الستاتيكو الراهن بهدف التدخل في منطقة كانت بالأمس سوفياتية. وفي السياق نفسه، لا يجب المبالغة في تقويم الدعم الروسي لأرمينيا، التي تعتمد اقتصادياً وعسكرياً على موسكو، فروسيا تبقى أيضاً المصدر الأول للسلاح لأذربيجان!
إذ لا يقتصر النزاع الأرمني الأذري البارد منذ 1994 على صراع على إقليم، بالرغم من أهمية الأمر، بل يتخطاه الى تكثيف لحالة صراع روسي أميركي ــ وتحالفاته الإقليمية الإيرانية والتركية ــ على القوقاز، لا يغيب عنه المعطى النفطي. صراع تبدو روسيا رابحة فيه بعد حرب جورجيا الخاطفة صيف 2008، والتي أشارت بوضوح الى نيتها وقدرتها على الحفاظ على نفوذها في القوقاز. لذا، من غير المرجح أن يتطور الوضع في كاراباخ الى مواجهة كبيرة بين أرمينيا وأذربيجان، في ظل الواقع الراهن، وخاصة أن الحوادث الحدودية شبه روتينية منذ عقدين.