إسطنبول | بعد الفتور والتوتر اللذين خيّما على علاقات الرئيسين الأميركي باراك أوباما والتركي رجب طيب أردوغان، وجد الأخير نفسه مضطراً للبحث عمّن يساعده على الخروج من هذه الأزمة. نقل الكاتب جيفري غولدنبرغ في مقاله في مجلة «أتلانتيك» الأميركية بداية الشهر الجاري، مثلاً، عبارات قوية وصف فيها أوباما الرئيس التركي بأنه «مشروع فاشل... ولم يعد إسلامياً معتدلاً، كذلك هو يتهرب من محاربة تنظيم داعش».
ليس هذا الكلام هو الوحيد الصادر من واشنطن ضد أردوغان، إذ لم يتردد السفيران الأميركيان السابقان في أنقرة، إريك اديلمان وجون ابروموفيتز، في توجيه انتقادات عنيفة إلى أردوغان، ضمن مقال مشترك نشرته صحيفة «واشنطن بوست»، طالباه فيه بالتخلي عن سياساته الاستبدادية أو الاستقالة، واتّهماه بدعم الجماعات المتطرفة في سوريا والعراق.
وجاءت انتقادات الملك الأردني عبد الله الثاني للرئيس التركي لتزيد الطين بلّة، ما دفع رئيس وزرائه أحمد داوود أوغلو للقيام بزيارة مفاجئة إلى عمان، الاثنين الماضي. هذه المواقف كانت كافية ليتحدث الإعلام التركي عن فتور وتوتر جديّ بين أردوغان وأوباما، وخاصة بعد رفض الأخير عدة طلبات تركية للقاء في البيت الأبيض بدلاً من اللقاء القصير على هامش القمة النووية في واشنطن. كذلك عدم مشاركة أوباما في افتتاح الجامع التركي في ولاية ميريلاند، وتفويض نائبه جون بايدن لأداء هذه المهمة. أنقرة أعلنت على لسان وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو أنها لن تضحي بعلاقتها مع أميركا حتى إن اختلفت معها في موضوع «وحدات الحماية الشعبية» الكردية السورية. علماً أن أردوغان وداوود أوغلو هاجما أوباما وإدارته بأشد العبارات وأعنفها لتعاونهما مع «الوحدات»، حيث خاطب أردوغان أوباما بقوله «عليك أن تقول بصراحة من هو حليفك، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري أم تركيا؟». ردُّ أوباما جاء عبر مقالي السفيرين وغولدنبرغ، وعبر مستوى الاستقبال المتدنّي لأردوغان في مطار واشنطن، إذ لم يحضر أحد من المسؤولين الأميركيين بل حضر الاستقبالَ عرّيف من «المارينز» مع ثمانية من عناصر حرس الشرف.
ودفعت هذه المعطيات أردوغان إلى الاستنجاد بمنظمات اللوبي اليهودي، حيث بدأ فعالياته في أميركا بلقاء قادة هذه المنظمات، مبدياً استعداده لتطوير علاقاته مع تل أبيب، بالتزامن مع أحاديث إعلامية عن تبادل قريب للسفراء، وبالتالي تبادل الزيارات على مستوى الوزراء وبعدها الرؤساء. هذا بالطبع، إن اقتنع قادة تلك المنظمات بصدقية أردوغان، الذي يروّج وإعلامه بأن اسرائيل واليهود هم العدو الأول والأخير لنهجه الإسلامي، ويتهم الداعية فتح الله غولن بالخيانة والتآمر على الأمة والدولة التركية، بالتنسيق مع تل أبيب والموساد الإسرائيلي.
وجاء لقاء أردوغان مع الصحافية كريستيان أمانبور على شاشة «سي إن إن» الدولية، كمفاجأة ثانية، لكون الرئيس وإعلامه قد اتهما أمانبور و«سي إن إن» بالتجسس والتآمر على تركيا خلال أحداث «تقسيم» في حزيران 2013. ولم يتردد أردوغان في إغراء رجال الأعمال الأميركيين ممن التقاهم، موضحاً أن أبواب بلاده مفتوحة لهم على مصراعيها، وأنه مستعد للقائهم في اسطنبول متى شاؤوا ودون ترتيبات مسبقة مقابل مساعدته في علاقاته مع واشنطن.
يأتي كل ذلك في وقت يستمر فيه الرهان على مصير رجل الأعمال الإيراني ــ التركي رضا زراب، الذي اعتقلته السلطات الأميركية قبل أسبوعين، بعدة تهم منها عدم الالتزام بقرارات المقاطعة والعقوبات على إيران. زراب هو شريك رجل الأعمال الإيراني بابيك زانجاني، الذي حكمت المحكمة عليه بالإعدام في الخامس من آذار، بعد يوم واحد من زيارة داوود أوغلو المفاجئة إلى طهران. وكان الأمن التركي قد اعتقل زراب في كانون الأول 2013، بعدة تهم بينها التهريب والرشوة والتزوير. وهي التهم التي كان أربعة من وزراء أردوغان ونجله بلال، شركاء فيها، حيث كان زراب يهرّب العملات الصعبة والذهب إلى إيران من خلال علاقاته الخاصة مع الوزراء. وكانت هذه القصة بداية التوتر بين أردوغان وغولن الذي أشعل حرباً مستمرة بينهما، قضى فيها أردوغان على معظم أنصار غريمه في مؤسسات ومرافق الدولة وخاصة المخابرات والأمن والقضاء. ويتوقع الحقوقيون أن يدلي زراب بمعلومات مهمة وخطيرة عن علاقاته المتشابكة مع الوزراء ونجل الرئيس التركي، ما قد يدفع القضاء الأميركي إلى طلب استجوابهم، وهذا الاحتمال عجّل بإصدار الحكومة الأسبوع الماضي قانوناً يفوض لجنةً خاصةً بقبول أو رفض أي طلب محتمل من واشنطن في هذا الموضوع. وسيقوم أردوغان وفقاً للقانون الجديد بتعيين اثنين من أعضاء اللجنة، بينما سيعيّن داوود أوغلو ثلاثة آخرين، ليجري انتخاب الأربعة الباقين من جانب البرلمان، الذي يسيطر عليه «حزب العدالة والتنمية» الحاكم.
ويبقى الرهان على دور رجال الأعمال واللوبي اليهودي لإقناع أوباما بضرورة المصالحة مع أردوغان، برغم وصف الأوساط الدبلوماسية إياه بأنه لم يعد مقبولاً بسبب تصريحاته وتصرفاته ومواقفه الاستفزازية، وبرغم عدم الارتياح لسياساته الداخلية والخارجية ومساعيه للقضاء على كافة الحريات الديموقراطية وخاصة الصحافة، إضافة إلى تهرّبه من محاربة تنظيم «داعش» جدّيا، واستمراره في تقديم الدعم للجماعات التي تقاتل في سوريا.
ويتوقّع المراقبون أن تحمل الأيام القليلة المقبلة الكثير من المفاجآت في الموقف الأميركي الذي إما أن يضيء الضوء الأحمر بشكل نهائي، أو يعود إلى طبعه التقليدي في مغازلة أردوغان، وخاصة أن الأخير يعرف أنه من دون رضى واشنطن لم ولن يكون بمقدور أحد أن يصل إلى السلطة في تركيا ويبقى فيها ولو لسنة واحدة.