صمد مشروع بناء الكاتدرائية الروسية في باريس في وجه كل التعقيدات والتشنج الذي ساد العلاقات الروسية الفرنسية في السنوات الأخيرة؛ من الاختلافات العديدة في السياسة الخارجية، إلى التوتر الناتج من الأزمة الأوكرانية، واستعادة القرم، وقبلها ما حصل في جورجيا، فسوريا، إلى العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على خلفية المواجهة الروسية الغربية في أوكرانيا. وصولاً إلى وضع القبة المذهبة الأولى على مبنى الكنيسة في احتفال أقيم يوم السبت الماضي، وحضره السكرتير الأول للحزب الاشتراكي الحاكم في فرنسا.
لم يتوقف المشروع عن إثارة النقاش والجدل حوله منذ الخطوة الأولى في 2007. فبعيد انتخابه رئيساً، عبّر نيكولا ساركوزي عن رغبته في تمتين العلاقات مع روسيا. وجاء طرح عقار تبلغ مساحته أربعة آلاف متر مربع، في الوسط التاريخي لباريس بين الانفاليد وبرج ايفل، وكان قائماً عليه مقر ميتيو فرانس، مناسبة لتعبّر روسيا عن رغبتها في شرائه لتشييد كنيسة ومركز ثقافي روسي عليه، وذلك في نفس الوقت الذي عبّرت فيه السعودية عن رغبتها في شراء نفس العقار لبناء جامع ومركز ثقافي سعودي عليه. حسم الشراء لمصلحة الدولة الروسية، التي اكتسبت قطعة الأرض القابلة للبناء مقابل 70 مليون يورو.
بعد ثلاث سنوات، أُجريت مسابقة دولية اشترك فيها نحو 400 مهندس من كل أنحاء العالم، واختير بنتيجتها، في آذار 2011، مشروع المهندس الإسباني من أصل روسي، مانويل يانوفسكي. جاء التصميم ضخماً يتضمن كاتدرائية بخمس قباب مذهبة، يبلغ ارتفاع أعلاها 37 متراً من دون احتساب الصليب.
جرى تنافس روسي سعودي لشراء نفس العقار في وسط باريس التاريخي

لم يتأخر عمدة باريس في حينه، الاشتراكي برتران دولانوييه، عن إعلان "معارضته الواضحة جداً" للمشروع، بحجة أن تصميمه المتباهي والاستعراضي لا يتناسب والموقع في وسط العاصمة الفرنسية. والواقع أن المزعج في الأمر ليس التصميم والأسلوب الروسيين، بقدر ما هو الانزعاج السياسي من مشروع روسي يحمل معاني سياسية واضحة ينفذ في قلب العاصمة الفرنسية. كان بنتيجة ردّ فعل دولانوييه، أن سحبت الدولة الروسية طلب رخصة البناء في 26 آذار 2013، مع التأكيد أن المبنى الديني والثقافي سيُنجَز.
ولاستكمال المشروع، استعانت الدولة الروسية بالمعماري الفرنسي، جان ميشال فيلموت، المعروف في روسيا نظراً إلى دوره في مشروع "موسكو الكبرى"، الذي كان قد حلّ في المرتبة الثانية في المسابقة لبناء المشروع، والذي يختلف تصميمه قليلاً عن التصميم الأول. فالبناء سيكون من الحجر الأبيض ويحافظ على قاعدة القباب الخمس، مع نفس ارتفاع القبة الرئسية، أي 37 متراً (وهو الحد الأقصى المسموح به)، على أن يكون تذهيبها أقل لمعية من مبنى الانفاليد (ضريح بونابارت)، وبالتالي أقل بريقاً في المشهد العام على ضفة السين.
سيضمّ المجمع المسمى "المركز الروحي والثقافي الروسي"، إضافة إلى الكاتدرائية، مدرسة مزدوجة اللغة لنحو 150 طالباً، مسكناً للرعية، ومركزاً ثقافياً فيه مكتبة وقاعة معارض. لكن يذكر أنّ هذه الكاتدرائية الروسية ليست الأولى في باريس، بل الثانية بعد كنيسة القديس الكسندر نيفسكي المبنية عام 1861، والتي تحولت إلى كاتدرائية، أي كنيسة تضم كرسي الأسقف، عام 1922 بعدما نقل كرسيه الأبرشي إليها أحد مطارنة الروس البيض. إضافة إلى عدد من الكنائس الروسية موزعة في العاصمة باريس وضواحيها، وأغلبها يتبع من ناحية الولاية الجغرافية للبطريركية المسكونية (القسطنطينية).
بغضّ النظر عن الطابع التقني للموضوع، والجانب المعماري والجمالي الذي سيمنح العاصمة الفرنسية مبنىً جميلاً ومميزاً يضاف إلى لائحة طويلة، فإنّ للموضوع أبعاداً ديبلوماسية وسياسية ورمزية واضحة، خصوصاً أنّ عدد الأرثوذوكس الروس في فرنسا عامة ضئيل جداً بالنسبة إلى ضخامة المبنى.
ديبلوماسياً، يعدّ بناء روسيا لمجمع في قلب العاصمة الفرنسية، وبرعاية مباشرة من الكرملين، تعبيراً قوياً عن القوة والنفوذ الروسيين، في عزّ التوتر القائم مع فرنسا. خاصة في عاصمة وبلد ضنينين بالرمزية إلى حدّ الهوس بالمباني الفرنسية، من ديبلوماسية ودينية وثقافية موزعة في كل أنحاء العالم، ومصدر فخر يصل إلى حدود الصلف بالإرث الاستعماري في أحيان كثيرة. فخرٌ لم يعتد المعاملة بالمثل إلا من قبل الدول التي تمتلك هذه القدرة، ومن بينها روسيا. ألم تعلن الوحدة الألمانية عام 1870 في قاعة المرايا في قصر فرساي، رمز عزة فرنسا؟
أما سياسياً، فإنّ المشروع بحد ذاته كان تعبيراً عن تقارب روسي فرنسي في بداية عهد ساركوزي، وبقي المسار السياسي للعلاقة السياسية بين البلدين مؤثراً عليه منذ اليوم الأول إلى الآن. فمنذ تفضيل روسيا على السعودية لبيع الأرض، ثم الصعوبات التي واجهها التصميم الأول ثم استكمال المشروع، وصولاً إلى الحديث عن افتتاحه رسمياً في تشرين الأول المقبل، أي بعد سبعة أشهر، مرّت العلاقات الثنائية بين البلدين بمراحل متعددة غلب عليها التوتر والخلاف. فبين بداية المشروع عام 2007 والافتتاح الرسمي المرتقب، تبدلت العلاقات الروسية الفرنسية على وقع عدة أزمات، وغيرت فرنسا موقفها برفضها تسليم الميسترال لروسيا صيف 2015. لكن مشروع بناء الكاتدرائية بقي قائماً، ربما لأنه خيط تقارب بين باريس وموسكو، وكان الرئيس الفرنسي الاشتراكي، فرنسوا هولاند، قد أعاد التشديد على عدم ممانعته للمشروع في 2013.
ووفق الطرف الروسي، سيحضر الافتتاح الرسمي الرئيس بوتين على الأرجح، ما يفترض أن لقاءً سيعقد بينه وبين نظيره الفرنسي، الذي قد يحضر الافتتاح أيضاً كما أوضحت مصادر قصر الإيليزيه، علماً بأنّ هولاند، قد لا يتردد بارتكاب زلة ديبلوماسية عبر مقاطعة الاحتفال، تماماً كما حصل عندما اقترح لمنصب سفير فرنسا لدى الفاتيكان شخصاً مثليّ الجنس، ولم يكن قد مرّ وقت طويل على المواجهة المفتوحة مع شريحة من الفرنسيين على خلفية قانون زواج المثليين.
الافتتاح إن حصل بهذه الصيغة سيكون مناسبة ديبلوماسية مهمة لروسيا وفرنسا، للأولى للتعبير عن قوتها ونفوذها، وللثانية لرأب الصدع مع موسكو، إلا إذا طرأ تطور دراماتيكي على العلاقات من شأنه إطاحة الوضع الراهن.



معالم روسية في فرنسا

تعكس المباني الروسية في فرنسا تاريخ العلاقة بين البلدين، إذ يمكن العودة بالعلاقات الروسية الفرنسية الى القرن الحادي عشر، لكنها بقيت علاقات محدودة جدا ومقتصرة على بعض المبعوثين والتجار حتى القرن الثامن عشر. أول اتصال حقيقي بين الروس والفرنسيين حصل خلال حملة نابوليون في 1812 حيث وصل الى موسكو، ثم دخول الجيش الروسي الى باريس في 1814، وعلى رأسه القيصر الكسندر الاول، الذي اقام في قصر الايليزيه وكان حينها ملكا لوزير الخارجية الفرنسي تاليران.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، افتتح جسر الكسندر الثالث لتخليد ذكرى الاتفاق الروسي الفرنسي الذي وقعه هذا القيصر مع الرئيس الفرنسي سادي كارنو في 1891. تضاف إليه مقبرة القديس هيلاريون الكبير، التي دفن فيها جنود فرقة الاستطلاع الروسية في فرنسا خلال الحرب العالمية الاولى. أما مع وصول الروس البيض، فارتبطت كنيسة القديس الكسندر نيفسكي بهم، وتحولت الى كاتدرائية. وهناك معلم آخر مرتبط بهم هو مقبرة (Sainte Genevieve des Bois) غير البعيدة عن باريس.