باريس | يدور الجدل في فرنسا، منذ يومين، بشأن ذكرى رسمية تبنّاها المشرّع الفرنسي في كانون الأول 2012، بعيد وصول فرانسوا هولاند إلى الحكم، فيما هذه هي المرة الأولى التي يحضر فيها رئيس فرنسا مراسم الاحتفال.
لم يدر الجدل حول مبدأ إحياء هذه الذكرى بقدر ما تركز حول تاريخها الذي يستعيد «اتفاقيات ايفيان» (18 آذار 1962)، التي وضعت حداً لما كان يسمى وقتذاك «أحداث الجزائر» من خلال إعلان وقف النار بين قوات المستعمر الفرنسي وناشطي جبهة التحرير الوطنية الجزائرية.
وبينما ينظر هولاند إلى هذه الاتفقيات كـ«بداية انتهاء الحرب» من خلال عودة الجنود الفرنسيين إلى أرض الوطن و«انتهاء عذاب عديد من الأسر الفرنسية»، فإن جزءاً من الرأي العام الفرنسي ــ تحديداً من الفرنسيين الذين استوطنوا في الجزائر ــ لا يزال يذكر هذه الاتفاقيات بوصفها يوماً «أسود»: يوم تنازلت عنهم وتناستهم الحكومة الفرنسية على حدّ قولهم، وتركتهم يواجهون مصيرهم، في ظل عودة أكثر من مليون فرنسي إلى بلدهم تحت شعار «إما الحقيبة، وإما النعش».
بيد أن هذا الخطاب، كما يذكر المؤرخون، يخفي حقيقة أخرى: أعمال القتل والتعذيب التي واصلتها «منظمة الجيش السري» المعارضة لاستقلال الجزائر بعد اتفاقيات ايفيان، ما فسّر تواصل دوامة العنف حتى التاريخ الرسمي لاستقلال الجزائر في 5 تموز 1962، فضلاً عن أن التاريخ الرسمي لانتهاء الحروب لم يعن أبداً تاريخياً توقف نزيف الدم.
يحشر هولاند نفسه، وحزبه "الاشتراكي"، في تاريخ مناهضة الاستعمار


توظيف سياسي

قد يكون الأجدى الركون إلى واقع السياسة الفرنسية لتفسير هذا الجدل، عوض البحث في تاريخ الذكرى. فمن اللافت للنظر أن يختار هولاند هذه السنة بالذات لحضور الاحتفال، وكأنه يسعى لتذكير ناخبيه بأنه لا يزال ينتمي إلى اليسار رغم السياسة الاقتصادية والأمنية المحافظة التي توختها الحكومة مؤخراً: بين تعديل قانون العمل باتجاه يميني يرضي أصحاب المؤسسات الكبرى، ومشروع تعديل الدستور للسماح بحرمان مزدوجي الجنسية من هويتهم الفرنسية في حال مشاركتهم في أعمال إرهابية، ما اعتبرته أحزاب أقصى اليسار تمييزاً تجاه مواطنين اعتبرتهم الحكومة من درجة ثانية، فضلاً عن الوعود الانتخابية التي لم يف بها هولاند، من منح حق التبنّي للمثليين أو حق المشاركة في الانتخابات البلدية للأجانب. وربما هو أيضاً استقطاب لأقصى اليسار، إذ يحشر هولاند نفسه وحزبه في تاريخ مناهضة الاستعمار الذي لم يكن الاشتراكيون الفرنسيون جزءاً منه. فمن سخرية الأقدار أن الرئيس الاشتراكي الوحيد الذي عرفته "الجمهورية الخامسة" قبل هولاند، أي فرانسوا ميتران، والذي ألغى عقوبة الإعدام عام 1981، كان وزير العدل الأكثر تشدداً زمن الجمهورية الرابعة حيال ناشطي جبهة التحرير الوطنية. فخلال عهده الذي لم يدم أكثر من 15 شهراً، وقّع ميتران على إعدام 45 ناشطاً من أجل استقلال الجزائر، من بينهم فرنسي شيوعي. جميعهم لم يتمتعوا بالعفو الوزاري.
أما على يمين الصورة، قد تشكل مشاركة هولاند فرصة للرئيس السابق نيكولا ساركوزي لحمل راية المحافظين وأصحاب الحنين إلى «الجزائر الفرنسية». فالمستوطنون الفرنسيون في الجزائر يُعرفون اليوم بكونهم من أوفى ناخبي اليمين المتطرف الذي يحاول جاهداً حزب «الجمهوريين»، بزعامة ساركوزي، إغراءهم. وقد ذكر ساركوزي أن هكذا احتفال بيوم يعتبره جزء من المجتمع كهزيمة عسكرية لفرنسا يعني «أن هناك جانباً حسناً وجانباً سيّئاً للتاريخ، وأن فرنسا كانت تقف على الجانب السيّئ». وهكذا، نأى ساركوزي بنفسه عن الخط الذي رسمه الأب الروحي لليمين الجمهوري، الرئيس السابق شارل ديغول، الذي كان قد اقتنع بحتمية إنهاء حقبة الاستعمار وإرساء علاقات جديدة ومختلفة مع المستعمرات القديمة.
الانتقادات الموجهة إلى هذا الاحتفال تشير إلى تساهل مصرّح به مع التاريخ الاستعماري الفرنسي، في فترة صار فيها وصول رئيسة الحزب اليميني المتطرف، مارين لوبان، إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية لـ2017 أمراً محتملاً، وبات فيها ناخبو اليمين المتطرف جمهوراً معتبراً تتهافت إليه ألسنة الشعبوية.