*********************************
**********************************************************

عملياً، إنّ قانون العمل الفرنسي معقد إلى حد ما، حتى بالنسبة إلى الحقوقيين، وذلك بحكم كونه تشريعاً توليفياً، أو تصنيفياً، يضم نحو أربعة آلاف مادة من أصل تشريعي أو تنظيمي متعلقة بالعمل وعقود العمل. إضافة إلى مجموعة نصوص موزعة على تشريعات خاصة، والنصوص الأوروبية الملزمة.
كان الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، قد أعلن مشروع القانون في كانون الأول الماضي، واعداً بأن يصبح القانون نافذاً قبل فصل الصيف. لكن صياغة المشروع السريعة، وفشل وزيرة العمل، ميريام الخمري، بتقديمه أمام الرأي العام وإقناع النقابات به، جعل الأمر صعباً واضطر رئيسي الجمهورية والحكومة إلى إعادة صياغة النص تحت إشرافهما، لتعود الوزيرة إلى طرحه معدلاً في 14 آذار الحالي.
ينص مشروع القانون الجديد على مجموعة تعديلات متوسطة الأهمية، لا تمسّ جدياً بجوهر الضمانات التي يوفرها الإطار القانوني للعمل في فرنسا، والتي اعتادها الفرنسيون منذ السبعينيات، بالرغم من تغير الأوضاع الاقتصادية بنحو كبير، بل جذري في بعض القطاعات. ويشكل التقليد الحمائي للقانون الفرنسي، إضافة إلى ثقافة نقابية عريقة ومشاكسة، ضنينة جداً بالمكتسبات الاجتماعية للعمال، عوائق أساسية في وجه هذا القانون. ويذكر أن محاولة مماثلة، لكن أكثر محدودية، كان قد قام بها رئيس الوزراء السابق، دومينيك دو فيلبان، عام 2006 لتليين قواعد التعاقد الوظيفي والصرف، ووجهت بمعارضة شرسة في حينه.
تقنياً، إن مشروع القانون بصيغته المعدلة لا يتراجع عن النقاط الأساسية التي تضمنها النص السابق، بل يضيف إليها بعض التعديل. فالنص السابق كان قد لحظ حداً أقصى ملزماً لحجم التعويضات في حالات الصرف التعسفي، فيما يبقي النص الجديد عليها كحدود غير ملزمة ليستأنس القاضي بها. ينص مشروع القانون أيضاً على دور أكبر للقاضي في مراقبة معايير الصرف الاقتصادي، الذي يجيز للشركات المتعددة الجنسية أن تصرف عدداً من عمالها وفق شروط تقنية (لا مجال للدخول في تفاصيلها). إذ يجيز النص للقاضي التأكد من أن الصعوبات الاقتصادية المتذرع بها واقعية وغير مفتعلة بهدف تبرير الصرف.
أمر آخر مهم جرى التراجع عنه في الصياغة الجديدة، وهو الحق الذي منحه النص الأصلي لمديري المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بالتحكم الأحادي بتوقيت العمل وبعض تفاصيله، فحافظ النص الجديد على أهمية عقود العمل الجماعي ودور الممثلين النقابيين في صياغتها بالاتفاق مع أرباب العمل.
ينص مشروع القانون الجديد على مجموعة تعديلات متوسطة الأهمية

خففت الصيغة الجديدة المعدلة لمشروع القانون من المعارضة التي واجهت النص الأول، فأبدت النقابات التي توصف بالإصلاحية قبولاً، وإن متحفظاً عليه، لكن بعض نقابات اليسار المتطرف، إضافة إلى مجموعة نواب اشتراكيين من الرعيل القديم، منهم مارتين اوبري مثلاً، لا تزال تعارض المشروع وتدعو إلى سحبه، وهو نفس موقف المنظمة الطلابية للحزب الاشتراكي (UNEF).
بالمحصلة، إنّ مشروع القانون يحاول خلق صيغة أكثر مرونة وقابلية للتكيف مع الظرف الاقتصادي الراهن، دون المساس بالضمانات الجوهرية لقانون العمل. وبالرغم من وجود تحرك ضد مشروع القانون، متمثل بموقف النقابات عموماً، وبالعريضة ضده التي جمعت إلى الآن أكثر من 900 ألف توقيع، والتظاهرات والتحركات الاجتماعية المختلفة، فلمشروع القانون مدافعون عنه يميناً ويساراً.
من بين المدافعين عنه وزير الاقتصاد، إمانويل ماكرون، وإن كان يرى أن مشروع القانون لم يذهب بعيداً بما فيه الكفاية في التعديلات المطلوبة في صيغته الأساسية، ومن باب أولى في النص المعدّل المقترح أخيراً، إضافة إلى مجموعة من النواب الاشتراكيين. يضاف إليهم اشتراكياً مجموعة عمل أسست عام 2007، تُسمى "الغراك" (les graques)، مؤلفة من الكوادر الذين يتموضعون على يمين اليسار، منهم من المحامين الجامعيين وكبار موظفي الإدارة وأطباء ومديرو شركات، وهم يعبّرون عن أنفسهم بشكل دائم حول سياسات الحكومة، خاصة الاقتصادية، منذ 2007.
ترى مجموعة العمل تلك أن القانون جيّد، إذ لا يحرم العامل أياً من الضمانات الأساسية لقانون العمل، إضافة إلى أنه يخلق مساحات حوار جديدة داخل المؤسسة ويسمح لها بالتكيف مع الواقع الاقتصادي بنحو أسهل.
أما يمينياً، فهناك ترحيب عام بمشروع القانون، وإن كان متحفظاً بشكل مفهوم لأسباب انتخابية ومتعلقة بالحفاظ على استقلالية معينة بالخطاب بالنسبة إلى مشروع مقدم من أكثرية اشتراكية.
بالمحصلة، إنّ القانون، وإن واجه صعوبة في الإقلاع، لكنه يبدو على طريق الإقرار، فيما لا شيء يوحي بإمكانية أن يحقق الرئيس الفرنسي، ومعه وزيرة العمل، ما كان قد وعد به في اجتماع مجلس الوزراء في منتصف كانون الثاني الماضي. إذ أعلن أن النص سيعرض على مجلس الوزراء في بداية شهر آذار قبل أن يعرض على الجمعية الوطنية آخر آذار للتصويت، ليصبح نافذاً قبل الصيف، بالرغم من الوضع الاقتصادي والتوظيفي المأزوم في فرنسا. فإعادة صياغة قانون العمل بشكل عام، التي يقترحها المشروع، ورشة كبيرة ستمتد إلى 2017، عدا عن الوقت اللازم لإصدار المراسيم التطبيقية واحتساب مهل التوقيع والنشر في الجريدة الرسمية ومهل الانتقال بين النصين القديم والجديد، وإنّ أحكام القانون الجديد لن تبدأ بالنفاذ الفعلي قبل نهاية العام الجاري. وهي حتماً تحتاج إلى وقت لإنتاج بعض المفاعيل، خاصة المساعدة على امتصاص كتلة العاطلين من العمل وتصريف الأمر إنجازاً في سباق استحقاق الرئاسة، ربيع 2017.