لم تكتمل فرحة المعارضة البرازيلية التي هللت لخبر اعتقال الرئيس البرازيلي السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، بعدما تعرضت لضربة قاصمة في مشروع إقالة الرئيسة ديلما روسيف، لذلك وجدت في اقتياد دا سيلفا إلى مركز التحقيق الفدرالي فرصة لإطلاق حملة جديدة ولو عبر بوابة الأب «الروحي» لحزب «العمال» ورمز حركتهم السياسية.لكن ارتدادات هذا التوقيف جاءت بمفاعيل عكسية، فقد فتحت الجدل القانوني من جديد حول شرعية الإجراءات التي بات ينظر إليها كملاحقة سياسية. نظرة لم تقتصر على مؤيدي دا سيلفا بل انضم إليها عدد كبير من النخب المعارضة التي دانت التعاطي مع ملف الفساد كأداة للاستعراض السياسي والإعلامي.
إجراءات خلطت الأوراق بعد أشهر من الهدوء وأنتجت تحسناً اقتصادياً

وارتدادات عملية التوقيف، التي دامت خمس ساعات، جاءت على نحو مخالف لتمنيات المعارضة، فسيلفا الذي بدا واثقاً، وهو الرجل الذي اختبر كل أنواع التحديات في بدايات مشواره السياسي، حوّل القضية إلى مناسبة لشحذ الهمم من أجل مواجهة حاسمة بعد ما اعتبره خروجاً عن الأصول والقوانين وفتح المواجهة على الاحتمالات كافة. دا سيلفا استعرض تاريخه النضالي ومساره السياسي الذي قاده ليصير الرئيس الأقوى في تاريخ البرازيل، وذكّر بنقلة بلاده النوعي من جمهورية صامتة مغيبة إلى فعالة ومؤثرة في السياسة الإقليمية والدولية.
كما جاء خطاب الرئيس العمالي السابق فور خروجه من مركز التحقيق كإعلان المواجهة الشاملة التي لم يحصرها في الأطر القضائية والإعلامية، بل أعلنها بوضوح؛ أن إسقاطه لن يكون إلا في الشارع. ترافق هذا الإعلان مع خروج مئات المتظاهرين الذين جابوا شوارع ساوباولو في ساعات الليل المتأخرة، ما أوضح أن مناصري «العمال» باتوا على استعداد لأخذ المبادرة ووضع حد لما سموه مشروع «الانقلاب المتجدد».
في سياق متصل، سارع عدد كبير من المحللين والحقوقيين إلى إدانة ما سموها المبالغة في التعاطي مع هذا الملف القضائي، فالرئيس دا سيلفا لم يكن فاراً من العدالة ولم يتسلم أي إخطار أو بلاغ مسبق للإدلاء بإفادته. وهي إدانة انضم إليها عدد من الكتاب المعارضين لسياسات «العمال»، الذين حذروا من أن هذه الإجراءات لا تخدم المسار القضائي وكشف حقيقة ملفات الفساد، بل وصل الأمر إلى تسمية أحد كتاب صحيفة «فوليا دي ساوباولو» المعارضة، الإجراء، بأنه غير قانوني.
أما الانتقاد الأبرز والأهم على الصعيد القضائي، فجاء من عضو المحكمة الدستورية العليا، ماركوس ميلو، الذي وصف عملية التوقيف بالعمل المفرط وغير المناسب.
وفي تفاصيل القضية، سخر حقوقيون من الأدلة الواردة في محضر النيابة وخصوصاً اتهام دا سيلفا باستلام مبلغ مليون ومئة ألف دولار من شركة «بتروبراس» لصيانة منزل فخم بناه في مزرعة نائية شرق ساوباولو، فيما نفى دا سيلفا نفياً قاطعاً أن يكون مالك المنزل.
بناء على هذه الأحداث المتسارعة، أيقن العماليون بأن أطرافاً سياسية وقضائية مصرة على إنهاك الحكومة العمالية واستهداف الرئيس السابق لإنهاء مشواره السياسي، وخصوصاً بعد المعلومات التي أكدت نية دا سيلفا الترشح للإنتخابات الرئاسية المقبلة، وهو ما سيضع المعارضة أمام مواجهة صعبة، وعليه فإن تصعيد الموقف قد يكون الخيار المناسب في هذه اللحظة التي يشعر فيها حزب «العمال» بالإهانة.
أمام هذا المشهد، تسعى المعارضة إلى الاستثمار اللامحدود في هذا الحدث بغية إنجاح احتجاجاتها في الثالث عشر من هذا الشهر ومحاولة ربط المعطيات القضائية لتصل إلى توريط الرئيسة الحالية، ديلما روسيف، في ملفات الفساد. وترافق الضغط السياسي والقضائي مع دعوات إلى استقالة روسيف، أبرزها من الرئيس اليميني الأسبق فرناندو إنريكي كاردوزو، ضمن إجراءات خلطت الأوراق بعد أشهر من الهدوء وأنتجت تحسناً اقتصادياً واستقراراً في سعر صرف العملة.
هنا بيت القصيد، فالعماليون يتهمون المعارضة بالابتزاز السياسي ووضع اقتصاد البلاد كرهينة مقابل تسليم السلطة، لذلك عمدت الأولى إلى إرباك الواقع الإقتصادي في أكثر الأوقات استقراراً وازدهاراً.
ويرى المراقبون في البرازيل أن خطوة الشرطة الفدرالية كانت كسراً لقواعد اللعبة، وأن تجبيرها بات شبه مستحيل في بيئة انعدم فيها الحوار السياسي، أما «العمال» الذي بدا كالثور الجريح، فبات مقتنعاً بأن كسر حلم المعارضة لن يكون إلا بقلب الطاولة وإحضارها مجبرة على الحوار. فلا القرار القضائي الذي أصدرته المحكمة العليا ببطلان عملية إقالة روسيف أقنع المعارضة بالتخلي عن مشروع الانقلاب، ولا الدستور البرازيلي الذي ينص بوضوح على وجوب احترام المسار الديموقراطي هدّأ طموحها في الاستيلاء على السلطة، وعليه، فإن آخر الدواء الكيّ.