حين تبدو فنزويلا جريحة

  • 0
  • ض
  • ض

حين توشك الطائرة على الهبوط، يسحرك مشهد العاصمة الفنزويلية، كاراكاس، المدينة التي تتربع بين أحضان الجبال الخضراء ويلف خاصرتها شاطئ يتكئ عليه البحر الكاريبي. كاراكاس مدينة شديدة الحيوية، وكأن الناس فيها اعتادوا ازدحام الطرقات. لكن مشهداً آخر بات مألوفاً منذ فترة، هو مشهد طوابير من الناس تقف على أبواب التعاونيات والصيدليات، منبئاً بقسوة الأزمة التي تشهدها البلاد، حيث تناقصت السلع الأساسية بشكل كبير، في ظل ارتباك حكومي يبرره المناصرون بأنه نتيجة الحرب الاقتصادية على البلاد. تنظر في وجوه الناس لتقرأ ما في داخلهم، فتحار بين تعبهم وحزنهم. إن سألت أحدهم، يبتسم بسمة حائرة متعبة لا تدلك على شيء. نسأل عجوزاً متكئاً على أحد الجدران، «سيدي، ماذا تعرف عن الحرب الاقتصادية»؟ فيجيب بطلاقة، «حين يقرر الغني تجويع الفقير وإذلاله». ندرك حينها أننا لسنا أمام مواطنين بسطاء، لكن أحداً ما في هذا العالم كره أن يرى الناس أحراراً. أثناء انتقالنا بين أحياء المدينة، طلب السائق رفع نافذة السيارة، تفادياً للنشل الذي غالباً ما يستهدف الهواتف والمحافظ. كان شرح السائق عن سبب تفشي هذه الظاهرة أشبه بدرس في الرياضيات، مفاده أن ثمن الهاتف يعادل 40 راتباً من الحد الأدنى. لم أفهم هذا الأمر إلا حين طلبت تصريف 200 دولار، فأتتني حقيبة مليئة بالرزم البوليفارية (عملة البلاد)، ثماني عشرة رزمة، في كل واحدة منها 100 ورقة نقدية. مشهد يشي بالوضع النقدي السيئ، الذي وضع الحكومة أمام تحدي ضبط حركة الرساميل الأجنبية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على القدرة الشرائية للعملة المحلية. واتبعت الحكومة عملية شديدة التعقيد، يمكن اختصارها بضبط أسعار السلع الأساسية، وتحرير أسعار الكماليات، التي لم تعد بمتناول المستهلك من الطبقة الوسطى حتى. دولار أميركي واحد كاف لشراء قارورة مياه وكيلو طحين وكيس أرز وليتر من الزيت. في المقابل، وفي فئة الملابس المستوردة مثلاً، صار ثمن بنطال «جينز» من النوعية الشعبية يعادل متوسط الراتب ونصفه. أما السلع الإلكترونية، إن وُجدت، فصارت أثمانها خيالية.

ثمة من تأذى من تجربة فنزويلا، فأشعل ضدها حرباً حاقدة
بحثنا في شوارع كاراكاس عن أجوبة تشبع فضولنا، فوجدنا بعضها، وظل بعضها الآخر في ذمة الحرب الاقتصادية. حدثنا أحد الإعلاميين عن تعثر حكومة الثورة أمام الحرب الاقتصادية الجائرة من الخارج وجشع الشركات في الداخل، شارحاً أن الحكومة التي آثرت حماية القطاع التجاري الخاص، عبر خفض سعر الصرف الرسمي للعملة المحلية إلى حدها الأدنى، أي ما لا يقل عن 200 بوليفار مقابل الدولار الواحد، فتحت شهية الشركات التي أخذت تشتري العملة الفنزويلية من السوق السوداء بما يقارب الـ 1000 بوليفار مقابل الدولار الواحد، ومن ثم تحوله عبر المصرف المركزي، بفواتير وهمية، لينتهي الأمر بمجزرة اقتصادية حكومية وأرباح خيالية للشركات (***لم أفهم هذه الآلية***). وكان آخر الدواء الكي، فأقفلت الحكومة الموانئ والمعابر أمام الاستيراد، إلا في الحالات الاستثنائية أو الخاضعة للرقابة الشديدة، فتفاقمت الأزمة وانعكست على عموم الاستهلاك. ننظر إلى كاراكاس وجمالها، إلى طيبة شعبها وثقافته، ونسأل: هل هذا هو سبب حصار هذا البلد الواعد، بلد آثر قائده الراحل، هوغو تشافيز، أن يرتقي بالفقراء إلى مصافي الأغنياء، فبنى لهم المساكن في الأحياء الراقية ووزعهم بين المناطق، حتى لا يوصم مكان في فنزويلا بالبؤس والفقر. هو وطن حكمه بنوه، ولو بخبرة غير مكتملة، فتوطدت العلاقة بين الحاكم والمحكوم. لا يفهم حيتان المال معنى أن تُعاد صكوك الأراضي الفنزويلية إلى المواطنين الأصليين الذين أبادتهم ثقافة «الحداثة والديموقراطية النوعية». ثمة من تأذى من تجربة فنزويلا الفريدة في بناء الإنسان المواطن، من دون أن يستكبر أحد على أحد أو أن يستغل أحد أحداً. في فنزويلا حرب شرسة حاقدة، يشعلها الاستكبار الذي لم يرُقه أن يتفرد شعب بمورد رزقه، وساعده في حربه تاجر فاجر لم تكفه ملايينه المكدسة من عرق الفقراء وألمهم. خلف كل مشاهد القهر، لمحنا أناساً يقفون في الطوابير لساعات، وهم يوكلون الله على من ظلمهم، ولمحنا جباهاً تبرق عزيمة وكرامة. أدركنا حينها أن فنزويلا جميلة في ظاهرها وفي باطنها، في هدوئها وفي ازدحامها، وأن شعبها الذي ذاق طعم الحرية يوماً، قد ينهكه ثمنها برهة، ولكنه حتماً سيستعيدها، وحينها قد لا يتسامح مع من أكل رزقه وطعنه في صميم كرامته.

  • شعب فنزويلا الذي ذاق طعم الحرية يوماً، قد ينهكه ثمنها لبرهة فقط

    شعب فنزويلا الذي ذاق طعم الحرية يوماً، قد ينهكه ثمنها لبرهة فقط (أرشيف)

0 تعليق

التعليقات