على عكس الانتقادات التي كانت تتعرّض لها زيارات المسؤولين الأميركيين إلى الرياض من قبل الكثير من المحللين والمتابعين، فقد برزت بشكل متزايد أخيراً الآراء التي «ترحّب» بالمبادرات الديبلوماسية التي تقوم بها واشنطن إزء المملكة. ترحيبٌ سببه، بشكل رئيس، التخوف من استمرار التراجع الأميركي في الشرق الأوسط، والذي يترك فراغاً لا يتوانى منافسو واشنطن الاستراتيجيون عن ملئه. وعلى رغم إدراكها أنّها لم تعد قادرة على الحصول على كل ما تريده من علاقاتها مع المملكة، فإنّ هذه المخاوف تدفع واشنطن إلى محاولة إيجاد أي خرق يمكن من خلاله البدء بإعادة العلاقات مع الرياض إلى «مسارها الصحيح». وفي هذا السياق، أجرى وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ليل الثلاثاء - الأربعاء، محادثات في جدة مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تناولت «حقوق الإنسان والصراع القائم في السودان والعلاقات الثنائية»، في محادثات وصفها مسؤول أميركي، طلب عدم الكشف عن هويته، بـ«المفتوحة والصريحة»، مشيراً إلى أن الاجتماع الذي بدأ قرابة منتصف الليل في القصر الملكي، واستمرّ ساعة وأربعين دقيقة، سمح بالتوصل إلى «تلاقٍ» في عدد من النقاط، والإقرار، في المقابل، بالنقاط التي هناك اختلاف حولها.

اتفاقية التطبيع
وبحسب المصدر نفسه، فقد ناقش بلينكن مع ابن سلمان «تطبيعاً محتملاً للعلاقات مع إسرائيل، واتفقا على مواصلة الحوار في هذا الشأن». وكان من المتوقع أن يثير الوزير الأميركي هذه النقطة، لاسيما بعد المعلومات التي أفادت، في الفترة الأخيرة، بأن واشنطن تسعى إلى إبرام اتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل «قبل نهاية العام»، أي قبل أن تستهلك الانتخابات الرئاسية جدول أعمال الرئيس جو بايدن. كما كان مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، قد ناقش، في وقت سابق من الشهر نفسه، مع ابن سلمان، إمكانية إبرام مثل هذا الاتفاق. بيد أن المملكة لم تبدِ استعداداً لاتخاذ هذه الخطوة، بحسب موقع «أكسيوس»، الذي نقل عن مسؤول أميركي، عقب زيارة سوليفان، أنّ ابن سلمان «لا يريد اتخاذ أي خطوات أخرى نحو تحسين العلاقات مع إسرائيل»، بل يرغب، بدلاً من ذلك، في العمل على «حزمة كبيرة تشمل تقديمات أميركية»، على غرار تعزيز التعاون العسكري بين البلدين. وبطبيعة الحال، يُقوّض هذا الموقف مساعي الولايات المتحدة لإبرام «الاتفاق التاريخي» الذي تدفع في اتجاهه، وتأمل في أن يكون له تأثير «الدومينو» على المزيد من الدول ذات الأغلبية العربية والمسلمة، والأهمّ، أن يكون قادراً على إعادة العلاقات الأميركية - السعودية إلى مسارها الصحيح بسرعة.

«خطوة إيجابية»
يُدرك المحلّلون الغربيون أن واشنطن لن تكون قادرة بعد الآن على «الهيمنة» على قرار الرياض وسياستها الخارجية، لا سيما أنّ هذه الأخيرة ما هي «إلا انعكاس لرؤية السعودية للداخل»، والتي ترسم خطوات المملكة الأخيرة، بدءاً من الخفض المستمر لإنتاجها من النفط بهدف إبقاء أسعاره مرتفعة، وصولاً إلى الاستمرار في التعاون «مع الشرق»، لا سيما الصين. وفي هذا الإطار، يرِد في تقرير نشره «المجلس الأطلسي»، مثلاً، أن على المسؤولين الأميركيين «ألا يتفاجأوا» بأنّ الرياض سترفض على الأرجح أيّ تفاوض مع واشنطن حول علاقتها التجارية مع بكين، لاسيما أن الصين لا تزال أكبر مستورد للنفط الخام السعودي، مشدّداً على أن على بلينكن، وغيره من المسؤولين الأميركيين، فهم السياسة الخارجية للسعودية، من خلال النظر إليها على أنّها تقوم على «التركيز على التنمية في الداخل، وعدم الانحياز، والوصول إلى الحدّ الأدنى من التأثير الخارجي».
وعلى رغم إدراكهم لتلك الوقائع، فقد كان «ترحيب» العديد من المحلّلين الأميركيين بزيارة بلينكن واضحاً، لا بل إنه طغى على الانتقادات التي كانت تُوجّه إلى المسؤولين الأميركيين في كلّ مرّة كانوا يتوجّهون فيها إلى السعودية، لاسيما في ما يتعلّق بملفّ «حقوق الإنسان». وقد وصل بعضهم حدّ الإشادة بأن واشنطن «لم تعُد تصغي» إلى الأصوات التي تتحدّث عن دعم حقوق الإنسان وضرورة تخفيف العلاقات الأميركية مع الرياض، والترحيب بأنّها تستمرّ، في المقابل، في اللجوء إلى الديبلوماسية، بدلاً من الجلوس «والتفرّج» على تراجع نفوذها في المنطقة، مقابل صعود نفوذ قوى أخرى. وبحسب «معهد الشرق الأوسط»، فإن زيارة بلينكن تعطي بعض المؤشرات عمّا تحاول واشنطن تحقيقه من خلال الانخراط في الشرق الأوسط بهذه الطريقة. وينقل المعهد عن نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون شبه الجزيرة العربية، دانيال بنعيم، قوله إن السبب الاستراتيجي الواضح الذي يجعل واشنطن مصرة على التعاون مع المملكة، هو عدم الرغبة في ترك فراغٍ لمنافسي الولايات المتّحدة الاستراتيجيين في المنطقة، مكرّراً بذلك الموقف الذي أعلنه بايدن خلال زيارته إلى جدة الصيف الماضي. وبينما يجري العمل على خفض التصعيد وتعزيز التكامل الإقليمي، يرى عدد من المراقبين في المعهد أن المشاركة الديبلوماسية الأعمق من قبل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ستؤدّي على الأرجح إلى نتائج أفضل على المدى الطويل، من تلك التي ستنتج من «غسل أيدينا من المنطقة والابتعاد عنها».
وفي تقرير آخر على «المجلس الأطلسي»، برز ما هو أشبه بـ«دعوةٍ» إلى «فتح صفحة جديدة»، وعدم الاعتراض على العلاقة أو الزيارات المتبادلة. ويرى أصحاب هذا الرأي أن على الرأي العام الأميركي أن يفهم بوضوح أن الولايات المتحدة تبحث حالياً، رغم كلّ الاختلافات في وجهات النظر، عن «علاقة مثمرة» مع المملكة، تخدم المصالح الوطنية لكلا الجانبين، مبرّرين الزيارات الأميركية المستمرة إلى السعودية بأن الرئيس الأميركي، جو بايدن، وغيره من المسؤولين الأميركيين، لا يطمحون إلى عقد «اجتماعات صداقة» تخدم «الطموحات الشخصية» وتتجاوز مصلحة العلاقات الواسعة بين البلدين، ومشيرين إلى أن الولايات المتحدة لطالما عملت مع حكومات دول لا تتفق مع رؤسائها، والسعودية «ليست استثناءً».
كما يدعو هؤلاء الشعب السعودي، من جهته، إلى إدراك أن «السنوات الأربعة التي سبقت عهد بايدن لا تمثّل نموذجاً للعلاقات الأميركية - السعودية. فبعيداً عن (حكم الرئيس السابق، دونالد ترامب، وعائلته)، كانت العلاقة الواسعة النطاق والدائمة مع السعودية ذات أهمية كبرى للولايات المتّحدة، خلال الجزء الأكبر من القرن الماضي». ويتابعون: «سواء أحبّ الشعب الأميركي أفراداً معيّنين في الأسرة الحاكمة السعودية أم لا»، فإن الزيارات إلى المملكة السعودية التي قام بها مستشار مجلس الأمن القومي، جيك سوليفان، في أيار، وبلينكن حالياً، بالإضافة إلى استمرار التواصل على مستويات العمل، «إيجابي للغاية».

اتّصال بوتين - ابن سلمان
وعقب زيارة بلينكن، أعلن المكتب الصحافي للكرملين، أمس، أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وابن سلمان أجريا مكالمة هاتفية، أشادا فيها بالتعاون داخل «أوبك+»، وفق ما أوردت وكالة «تاس» الروسية للأنباء.
كما تطرّق الرئيسان إلى مسألة تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين موسكو والرياض، لتنفيذ «مشاريع مشتركة في مجالي النقل والطاقة»، مشدّدَين على ضرورة استمرار التواصل في مختلف المجالات.