على رغم تكاثر المؤشّرات إلى تراجع الدور الأميركي في العالم، لا يزال ثمّة مَن لا يعتقد بحتميّة هذا التراجع، معتبراً مظاهره السائدة حالياً «انكفاءً مؤقّتاً»، سيتغيّر مع تغيّر الإدارات المتعاقبة، وستعود بعده واشنطن، عاجلاً أو آجلاً، القوة المهيمنة الوحيدة في العالم. إلّا أن اللافت أن ذلك الإنكار لا يَصدر غالباً عن المسؤولين والمحلّلين الأميركيين أنفسهم، الذين باتوا يقرّون بأن واشنطن تخسر هيمنتها المطلقة، وأنّه قد يكون عليها التأقلم مع فكرة أنّها قد لا تستعيدها أبداً.«الولايات المتّحدة تمرّ بلحظة البيريسترويكا الخاصة بها، وتجربة الرئيس السوفياتي السابق، ميخائيل غورباتشوف، أثبتت أن الاعتراف بالحاجة إلى التغيير والنجاح في تطبيقه هما أمران مختلفان تماماً، فهل إدارة بايدن في طريقها إلى تعلّم الدرس المؤلم ذاته؟»، يتساءل المحرّر التنفيذي لمجلّة «ناشيونال إنترست»، كارلوس روا، معتبراً، في تعليقه على خطاب مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، أمام «مؤسّسة بروكينغز» أواخر نيسان، والذي شدّد فيه على ضرورة تجديد «القيادة الاقتصادية الأميركية» في العالم، مُقرّاً، بالتالي، بأن النظام السياسي - الاجتماعي والاقتصادي للولايات المتّحدة بات «معطّلاً»، أن هذه الخطوة هي بمثابة «تحوّل عميق» في التفكير الاستراتيجي والاقتصادي لواشنطن، إذ تمّ من خلالها الاعتراف أخيراً بأن «الكثير ممّا كانت تفعله الولايات المتحدة وتقوله على مدى عقود هو خطأ»، وبأن الإصلاح الفوري و«المؤلم» بات ضرورياً.
اعترافٌ لا يعكس وجهة نظر سوليفان الشخصية، بل تلك التي يتشاركها أيضاً مع حفنة من المسؤولين الأميركيين في الإدارة الحالية والغرب بشكل عام، فيما يبدو، أكثر فأكثر، أن «الأوان قد فات»، باعتراف عدد من هؤلاء، لمواجهة ذلك الواقع، في ظلّ الظروف العالمية والداخلية الراهنة للولايات المتّحدة. باختصار، في خطاب سوليفان الأخير رفضٌ قوي لسياسات السوق الحرّة القوية التي تبنّتها الولايات المتحدة على مدار الأربعين عاماً الماضية، وإقرارٌ بخطأ تفضيل القطاع المالي على «الاقتصاد الحقيقي»، وتنديد بسياسات اقتصادية دولية لم تفلح في تقييد الصين وروسيا عسكرياً أو جعل دول العالم «تتبنّى قيم السياسة الغربية»، وإشارة إلى أزمات جديدة، على غرار أزمة المناخ وعدم المساواة الاقتصادية والفشل الأميركي في مواجهتهما.

الصحوة المتأخّرة
وفيما يرحّب روا بـ«الاعتراف» الأميركي، إلّا أنه يتبنّى نظرة تشاؤمية إزاء مدى إمكانية إصلاح أخطاء السنوات الطويلة المنصرمة، ولا سيما أن صحوة الولايات المتّحدة أتت «متأخّرة»، وأن ثلاث عقبات أساسية قد تحبط، بل «تهدم نهائياً»، الجهود الرامية إلى الإصلاح، وأولاها الفشل الأميركي في التخلّي عن النموذج الحالي، ومردّه إلى مشكلة أوسع في دوائر السياسة الغربية، التي وصفها الكاتب بـ«المرهَقة فكرياً والتي نفدت لديها الأفكار». وثانيتها، المقاربة الأميركية التي «تخلو من الشفافية والصدق» تجاه الصين؛ فالتصريحات الأميركية التي لا تفتأ تؤكد أن واشنطن لا تريد تقييد نموّ بكين، وبأنّ في نموّ الأخيرة ونموّ أطراف أخرى «خيراً للعالم»، تُقابَل بمجموعة كبيرة من ضوابط تصدير أشباه الموصلات المفروضة على الصين، وإدراج عدد من الشركات الصينية في القائمة السوداء عبر وزارة التجارة، التي أعلنت أخيراً وزيرتها، جينا رايموندو، أنه يجب على الولايات المتحدة العمل مع الدول الأوروبية «لإبطاء معدّل الابتكار في الصين». وإلى أبعد من ذلك، يذهب الكاتب بوصفه المقاربة الأميركية تجاه الصين في هذا المجال بـ«المنافِقة»، إذ يؤكد المسؤولون الأميركيون أن «بلادهم لن تقف في طريق التحديث الاقتصادي والتكنولوجي للصين إلّا في المجالات التي تمسّ المصالح القومية الأميركية»، و«كأنّنا - بحسب روا - نعيش في عالم يمكننا فيه فصل التحديث الاقتصادي والتكنولوجي عن الأمن القومي».
الشرق الأوسط هو جزء من عالم يشهد بأكمله تحوّلات سريعة ومكثّفة، يمكن لمسها في ممارسات دول كثيرة حول العالم


بمعنى آخر، تدرك واشنطن أن عليها الانخراط في الإصلاح «المؤلم إنّما الضروري»، والذي يتطلّب واقعياً انسحاباً محدوداً من السيطرة على النظام العالمي، إلّا أنها تسعى في الوقت عينه إلى الحفاظ على هذا النظام، من دون أن تترك «شبراً واحداً» لتعدّدية الأقطاب، فيما تبقى إمكانية تطبيق ذلك «سؤالاً مفتوحاً». وأخيراً، من الوقائع التي جعلت روا، أحد دعاة حصول مثل ذلك التغيير منذ وقت طويل، يشكّ في أن التحوّل المطلوب قابل للتحقّق في السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الحالي للبلاد، الأضرار الواسعة التي لحقت بالهيكلية الاقتصادية للولايات المتحدة بعد جائحة «كورونا» والحرب في أوكرانيا، والطريقة التي تعاملت بها واشنطن مع هذه الأحداث. وهو يقول: «موقفنا ببساطة أضعف بكثير ممّا كان عليه من قبل، كما أن الوحدة السياسية الداخلية تراجعت على مدى السنوات الثلاث الماضية».

عن شرق أوسط «ما بعد أميركا»
أمّا في ما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط، ولا سيما عقب توسّط بكين في الاتفاق السعودي - الإيراني، فلا يتردّد المحلّلون والسياسيون الغربيون في الحديث عن تعدّدية الأقطاب فيها، معتبراً أن على واشنطن «التأقلم» مع شرق أوسط «ما بعد أميركا». ومن بين هؤلاء، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، الذي قال في مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، في آذار، إن بروز بكين كصانعة سلام «سيغيّر شروط المرجعيّة الديبلوماسية الدولية»، معتقداً أن الولايات المتحدة لم تَعُد القوّة التي لا يَستغني عنها أحد في الشرق الأوسط، «أي الدولة القويّة أو المرنة القادرة على التوسّط في اتّفاقات سلام».
وفي الإطار نفسه، يدعو ماكس بوت، المؤرّخ والكاتب ومحلّل السياسة الخارجية، الجيش الأميركي إلى التأقلم مع وجود القوّات الصينية في الشرق الأوسط، كما يفعل في جيبوتي مثلاً، وإلى التفكير جدّياً في سبل لحماية المصالح الأميركية هناك، إذ إن «التظاهر بأن التحوّل في ميزان القوى لا يحصل، وأن الولايات المتحدة يمكن أن تستمرّ في التصرّف كما لو أنها لا تزال هي المهيمنة، لن ينجح، بل على واشنطن الخروج من حالة الإنكار، والبدء في التعامل مع الواقع الجديد. ولأوّل مرّة منذ عقود، يتعيّن عليها التنافس على النفوذ في الشرق الأوسط، بدلاً من اعتبار أن هيمنتها أمر مفروغُ منه». ويختم الكاتب تقريره في صحيفة «واشنطن بوست» الشهر الماضي، بالقول إن واشنطن ستضطرّ على الأرجح إلى التأقلم في نهاية المطاف مع دور بكين المتزايد في المنطقة، بالرغم من أن الكثير من الأميركيين لن يكونوا مرتاحين لهذه الفكرة.

التنافس في العالم
والشرق الأوسط هو جزء من عالم يشهد بأكمله تحوّلات سريعة ومكثّفة، يمكن لمسها في ممارسات دول كثيرة حول العالم باتت تسعى إلى فكّ التبعية الكاملة للولايات المتحدة وتنويع خياراتها. وهذا ما دفع رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، إلى التحذير، في خطاب أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، في نيسان، من أن «التعدّدية القطبية آخذة في الازدياد»، «والصفائح التكتونية للجغرافيا السياسية تتغيّر بشكل أسرع»، وأنه «لا ينبغي اعتبار الوضع الحالي للعملة الدولية (أي اليورو والدولار) أمراً مفروغاً منه». وتتابع لاغارد أنه نظراً إلى الأنماط التجارية الجديدة والاستخدام المتزايد «لبدائل العملات التقليدية الرئيسة للتجارة الدولية»، فقد أصبحت الصين تُنافس الهيمنة الأميركية، فيما زادت تجارتها الثنائية للسلع مع الاقتصادات النامية بأكثر من 130 ضعفاً، ما يجعلها أكبر مصدر لهذه البضائع في العالم. وتعتقد أن «كلّ هذا يمكن أن يخلق فرصة لدول معيّنة تسعى إلى تقليل اعتمادها على أنظمة الدفع الغربية وأطر العملات»، وهذا ما ينعكس على أرض الواقع بلجوء عدد متزايد من البلدان إلى تنويع العملات في تبادلاتها التجارية.
بناءً على ما تقدّم، لربّما يُختصَر الواقع الأميركي بقول الكاتب السويدي، مالكوم كيوني، «إن أخطر فترة يواجهها نظام سياسي ما، هي عندما يتجاهل أزمة كانت تلوح في الأفق لسنوات وعقود، ثمّ يجد نفسه أخيراً محاصَراً أمام حائط مسدود، محاولاً تطبيق إصلاحات واسعة».