تتركّز أنظار المراقبين، في قراءة التشكيلة الحكومية التركية الجديدة، على اسمَين، هما وزير الخارجية حاقان فيدان، ووزير الخزانة والمالية محمد شيمشيك. وإذا كان يُنظر إلى وجود فيدان في «الخارجية» على أنه استمرار - بشكل أو بآخر - لفيدان في رئاسة الاستخبارات، فإن الثقل الداخلي كان منصبّاً لدى شيمشيك دون سواه، بفعل تداعي الاقتصاد التركي منذ ما بعد عام 2018، والذي أدّى إلى انهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار، وارتفاع نسبة التضخّم إلى حدود المئة وربّما أكثر، كما ارتفاع نسبة العجز في التجارة والديون، فضلاً عن الزيادة الهائلة في تكاليف المعيشة. وبينما عوّلت المعارضة على الانهيار الاقتصادي لتكسب الانتخابات النيابية والرئاسية، من دون أن تكسب رهانها في نهاية المطاف، فقد حاول الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، فغيّر حاكم المصرف المركزي، كما وزير الخزينة والمالية، أكثر من مرّة، وخفّض نسب الفائدة، معتبراً إيّاها السبب الرئيس وراء الانهيار، حتى بات يُطلق عليه تهكُّماً لقب «بروفسور في الاقتصاد». غير أن إردوغان نجح، بفعل الدفق المالي الخارجي من روسيا والخليج وأذربيجان، في كبح تدهور سعر الصرف مؤقّتاً، إلى حين الانتهاء من الانتخابات. ومن هنا، تصدّرت أولوياته مسألةُ الاتفاق مع وزير المالية السابق (2009-2015) ليعود إلى موقعه ويقود عملية إصلاح الاقتصاد من جديد.يُنظر إلى محمد شيمشيك، الكردي الأصل، بثقة، نظراً إلى أن سياساته السابقة كانت توصف بـ«العقلانية». وهو ذكّر بذلك أثناء حفل التسلُّم والتسليم مع سلفه، نور الدين نباتي، حين قال: «ما كُلّفت به واجب ثقيل. وليس أمام تركيا خيار سوى العودة إلى القواعد العقلانية»، مضيفاً أن «الاقتصاد القائم على قواعد محدّدة، يمكن التنبّؤ به، وهو مفتاح الازدهار الاقتصادي»، واعداً بـ«ضبط المالية العامة والعودة بالتضخّم إلى خانة الرقم الواحد (أقلّ من 10%) ليكون هناك نموّ جيّد». كذلك، شدّد شيمشيك على أن هذا النموّ مرتبط بتحقيق الشفافية والامتثال للمعايير الدولية. وبدلاً من الاستعانة بخبراء ومستشارين من خارج الوزارة، يرى الوزير الجديد أن هناك ضرورة للاتّكال على موظّفي ملاك الوزارة الأكثر معرفة بوزارتهم.
وفي وصف قدراته، يقول الكاتب عبد القادر سيلفي، الموالي للسلطة، إن شيمشيك ليس فقط «ماركة تركية، بل ماركة عالمية»، معتبراً أن «تكليفه بإدارة الملفّ الاقتصادي يشكّل مرجعية مهمّة للأسواق المحلّية والدولية». ويُعدّ الوزير الجديد، وفق سيلفي، «مكسباً»، على رغم أن سلفه نباتي تولّى «المالية» في ظرف فائق الصعوبة، حين كان الدولار يقفز بسرعة الصاروخ، متأثّراً بوباء «كورونا» والأزمة العالمية، ومع ذلك، «استطاع إبقاء القطار على السكة». وفي الاتّجاه نفسه أيضاً، يرى الكاتب زاينيل بالجي أن ردود فعل الأسواق - ولا سيما التحسُّن الذي شهدته بورصة إسطنبول - على تعيين شيمشيك كانت إيجابية. ولكن، لا شكّ في أن الوزير الجديد سيصطدم، في المرحلة المقبلة من ولايته، بوعود إردوغان للموظّفين بزيادة الأجور بمعدّل 45%، وجعْل راتب أصغر موظّف 22 ألف ليرة تركية، أي ما يعادل الـ1100 دولار. وتعليقاً على هذه النقطة، يرى الخبراء الاقتصاديون أن رفْع الحدّ الأدنى للأجور لن يكون مقبولاً إذا لم يصل إلى 12 ألف ليرة، أي 600 دولار، حتى يتناسب مع رفع أصغر راتب إلى 1100 دولار. ووفق صحيفة «ميللييات»، فإن ضبط التضخّم عند حدود معيّنة لن يحصل في المدى القصير، بل في المدى البعيد.
يُتوقّع تعيين حفيظة إركان حاكمة للمصرف المركزي، لتكون أوّل امرأة تتولّى الحاكمية في تاريخ تركيا


في المقابل، يَعتبر الكاتب محمد علي فيرتشين، في صحيفة «قرار»، أنه «حتى لو سارت السياسات النقدية المقبلة بصورة رائعة، فإن منتهى التوقّع أن ينزل التضخّم إلى ما دون الـ20% بعد 18 شهراً»، مضيفاً أن «المهمّ هو التشخيص الصحيح للمشكلات الاقتصادية الراهنة، حيث انعكس خفض قيمة الفائدة في عام 2021، نتائج كارثية على الاقتصاد». ومن جهته، يرى الكاتب المعارض المعروف، فكرت بيلا، في موقع «خلق تي في»، أنه «أيّاً يكن الوزير، فإن شيئاً لن يتغيّر في ظلّ وجود نظام رئاسي برأس واحد. والسلطة تعلم أن الأزمة الاقتصادية العميقة هي بسبب سياساتها الخاطئة. وتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية إلى 35% هي من نتائج السياسات الاقتصادية الفاشلة. لذا، جاءت السلطة بمحمد شيمشيك لإنقاذها. والمطلوب من شيمشيك هو كسْر التشاؤم الذي سبّبته سياسة «الفائدة هي سبب والتضخّم هو نتيجة»». ويشير بيلا إلى أن «إردوغان استنزف كلّ موارد الدولة، ويبحث الآن عن موارد جديدة، فيما الاعتماد على الدعم المالي الخارجي غير ممكن الاستمرار به. لذا، المطلوب أوّلاً هو التخلّي عن سياسة «فوائد منخفضة، تضخّم مرتفع وسعر صرف مرتفع»». وبحسب الكاتب، فإنه من غير المعروف ما إذا الكاتب سينجح في العودة إلى «السياسات العقلانية» في الاقتصاد وفق ما وعد به؛ «ذلك أن القرار النهائي عند إردوغان. وبالتالي، فإن المناخ الإيجابي الذي أُريدَت إشاعته بعد تعيين الوزير الجديد يبقى في الهواء، خصوصاً وأن السلطة ماهرة في الانقلاب على ما تَعِد به. ما هو أبيض اليوم، غداً يكون يوماً أسود، والوزير الذي يُمتدَح اليوم، غداً يُقال من منصبه. وكم من حاكم مصرف مركزي ومن وزير مالية تمّ تغييرهما»، وفق بيلا الذي يتابع أن «المطلوب من شيمشيك تحرير البلاد من اقتصاد الهدر والإسراف والانتخابات. ولكن الرجل قد لا يستطيع ذلك، لأن الانتخابات البلدية على الأبواب والسلطة تريد استمرار اقتصاد الانتخابات خصوصاً لكي تربح من جديد انتخابات مدينة إسطنبول».
وفي صحيفة «سوزجي»، يعتقد مراد مراد أوغلو أن «كلام شيمشيك عن العودة إلى العقلانية في الاقتصاد غير ممكن تحقّقه، لأن القاعدة الوحيدة في الاقتصاد التركي منذ سنوات هي ألّا تكون هناك قاعدة»، معتبراً أنه «ليس بيد شيمشيك حلّ سحري؛ فبعد 9 أشهر تنطلق الانتخابات البلدية، فيما ستفرغ الخزينة بفعل الإنفاق على معالجة تداعيات الزلزال وزيادة معاشات التقاعد، ولن يتبقّى مال لدفع الرواتب والزيادات المتوقّعة، إلّا في حال طباعة المزيد من العملة». على أن رؤية حال الاقتصاد السيّئة لا تحتاج إلى خبير اقتصادي، وفق ما يورد الكاتب فهمي قورو، الذي يقول إن «الشباب الذين يعيشون في تركيا اليوم، يبحثون عن مستقبلهم في الخارج، والقيم التي ترعرع عليها كثيرون هاجرت معهم إلى الخارج»، مضيفاً أنه إذا كان شيمشيك «يمثّل أملاً للسلطة، فإن الحاجة ماسّة إلى وزراء عدل وداخلية يحملون الآمال نفسها. فتصحيح الاقتصاد يحتاج إلى تصحيح العدالة».
إلى ذلك، سيواكب تغيير وزير المالية، تغيير حاكم المصرف المركزي، مع توقّع أن يتم تعيين حفيظة إركان في هذا الموقع، لتكون أول امرأة تتولّى حاكمية «المركزي» في تاريخ تركيا. وإركان المولودة عام 1982، درست الهندسة الصناعية في جامعة «بوغازتشي»، وحازت شهادة دكتوراه في العلوم المالية من جامعة «برينستون» الأميركية، وأنهتها خلال سنتين فقط. ومن بعدها، عملت على مدى 9 سنوات في مصرف «غولدمان ساكس» الأميركي، وهي الآن مستشارة مالية في شركة «مارش ماكلينان» الأميركية. وقد عادت إلى تركيا قبل يومين، حيث ستلتقي إردوغان بعد لقاء جمعها إلى وزير المالية الجديد، ويتوقّع تعيينها بعد ذلك حاكمة جديدة لـ«المركزي».