لا يمكن للديبلوماسية التي يباشرها سلطان عُمان، هيثم بن طارق، شخصياً، والهادفة إلى التوصّل إلى صفقة نووية من نوعٍ ما بين الولايات المتحدة وإيران، إلّا أن تُوضع في سياق حركة متناسقة مستمرّة منذ سنوات، تُشكّل السلطنة محورها، وأسفرت إلى الآن عن التوصّل إلى تغييرات مهمّة. على أن هذه الحركة ما كانت لتنجِز ما أنجزته، لولا سعي الولايات المتحدة إلى خروج آمن من الشرق الأوسط، بمعنى تحقيق القدر الممكن من الاستقرار، مع المحافظة على ما أمكن من المصالح الأميركية، بما يسمح بتخفيف أعباء الانخراط العسكري المكلف في المنطقة. وقد صار هذا الخروج أكثر إلحاحاً بعد حرب أوكرانيا، مع اتّخاذ واشنطن قراراً بالتهدئة حيث تستطيع، للتفرّغ للتهديدَين الاستراتيجيَين المتمثّلَين في الصين وروسيا. هكذا، على سبيل المثال لا الحصر، أصبح ممكناً لحكومة «الإطار التنسيقي» أن تتولّى السلطة في بغداد بسلاسة، وبات متاحاً التوصّل إلى اتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلّة، وإجراء مفاوضات لتحسين العلاقات بين إيران ومصر في مسقط، وأخرى بين واشنطن ودمشق، على رغم الموقف المعلَن للأولى برفض ما يوصف بـ«تطبيع» العلاقات مع سوريا.لا يعني ذلك أن السلطنة تعمل وفق الأجندة الأميركية - وإلّا لما اعتبرتها طهران وسيطاً محايداً وموثوقاً -، على رغم أن طلب استئناف المفاوضات النووية جاء من واشنطن مباشرة، وحمَله كبير مبعوثي الرئيس الأميركي، جو بايدن، في الشرق الأوسط، بريت ماكغورك، إلى السلطان الذي نقله بنفسه إلى المرشد الإيراني، آية الله علي خامنئي، خلال زيارته طهران الأحد الماضي، في مؤشّر إلى وجود فرصة جدّية لتحقيق اختراق ما في الملفّ النووي، ولو لم يكن بحجم اتفاق عام 2015. فللسلطنة مصلحة أكيدة في تعزيز موقعها السياسي من خلال المساهمة في تسوية ملفّات معقّدة لها تأثير سلبي كبير على الشرق الأوسط ككلّ، إلّا أن تلك التسويات تبقى رهن التفاوض بين الأطراف المعنيّة، مع تسجيل أن الاتفاقات التي أدّت إلى تحوّلات كبرى مرّت كلّها في مسقط، بما في ذلك اتفاق عام 2015، والاتفاق السعودي - الإيراني الذي وُقّع في الصين. وثمّة ما يوحي بأن ما يجري الآن يمثّل تتويجاً لجهود تَجري خلف الكواليس منذ أشهر، إذ كان قد نُقل عن وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، قوله في نهاية آذار الماضي إن السلطان سيزور طهران قريباً حاملاً «أخباراً سارّة» في شأن المفاوضات النووية.
أحد المؤشّرات المهمّة إلى أن ثمّة فرصة لعقد صفقة ما بين طهران وواشنطن، كان الاستنفار الإسرائيلي للعرقلة


اتفاق 2015 كان التحوّل الأوّل من نوعه في السياسة الأميركية في المنطقة منذ عقود طويلة، وأعطى الإشارات الأولى إلى ثبات مشروع الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، لكن ضمن ترتيبات تحقّق ما تَعتبره واشنطن استقراراً يتيح لها الخروج الآمن، وإن كان ثبت للأميركيين أن الأمر ليس بتلك السهولة، عندما استطاعت إسرائيل دفع الرئيس السابق، دونالد ترامب، لأسباب انتخابية وليست أيديولوجية، إلى تمزيقه، وإفشاله بمفعول رجعي، وهو الأمر القليل الحدوث في السياسة الأميركية. فلسفة الاتفاق قامت على أن تحقيق استقرار يُغني الأميركيين عن الحاجة إلى وجود قوّاتهم هنا، يقتضي حصول توافقات بين الدول الرئيسة في الشرق الأوسط. وهذا ما تحدّث عنه الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، في مقابلته الشهيرة آنذاك مع مجلّة «الأتلانتيك»، حين نصح السعوديين الذين كانوا ما زالوا في ذلك الحين يربطون بالكامل أمن نظامهم بالوجود العسكري الأميركي في الخليج بالتفاهم مع إيران، حتى يُعفي بلاده من موجب الدفاع عن السعودية.
قد لا تكون متاحةً العودة إلى مثل هذا الاتّفاق قريباً، لأسباب كثيرة أهمّها ما سبقت الإشارة إليه من تأثير اللوبي الإسرائيلي في أميركا، ولا سيما على انتخابات الرئاسة والكونغرس. إلّا أن ذلك لا يمنع من التوصّل إلى اتفاقات جزئية أو جانبية كانت حتمية في ما لو استمرّ الاتفاق النووي. وإذا كان الحال كما تَقدّم، فإن الاتفاق السعودي - الإيراني ليس مزعجاً لأميركا، إلّا من حيث كونه تمّ خارج الرعاية الأميركية، وعلى مائدة خصم وندّ هو الصين. لكن مِثل هذا الاتفاق، مرّة أخرى، يريح واشنطن من الإجابة على سؤال سعودي صعب وملحّ هو: إلى أيّ مدى هي مستعدّة للدفاع عن المملكة؟ أحد المؤشّرات المهمّة إلى أن ثمّة فرصة لعقد صفقة ما بين طهران وواشنطن، كان الاستنفار الإسرائيلي للعرقلة، والذي بدأ بتسريبات إسرائيلية، نفتها واشنطن، عن أن ما يجري بحثه هو «اتفاق مؤقّت» يقضي بتجميد التخصيب النووي عند المستوى الذي وصل إليه، مقابل تعليق بعض العقوبات على طهران والإفراج عن أموال إيرانية مجمّدة، ويُستكمل بزيارة وفد أمني إسرائيلي إلى واشنطن اليوم للاطّلاع من المسؤولين الأميركيين على فحوى تلك المحادثات.
لكن الاعتراض الإسرائيلي لا يقتصر على ما يجري في المفاوضات غير المباشرة عبر السلطنة، وإنّما يتّخذ منها ذريعة لتخويف الرأي العام الإسرائيلي، وهو، أي هذا الموقف، في جوهره، معارض لاستراتيجية الخروج الأميركي من الشرق الأوسط برمّتها. ومع ذلك، يبقى ثمّة فارق بين ما يريده معظم الساسة الإسرائيليين، وما يمكن لواشنطن تسويقه للرأي العام الإسرائيلي، كاتّفاق يمكنها تقديمه له كضمانة بعدم قيام إيران بصنع سلاح نووي قد يُستخدم ضدّ تل أبيب في يوم من الأيام، أو يُصرف في توازن الردع معها. ولعلّه في هذا السياق يأتي تقييم المخابرات الأميركية الذي تحدّث عنه المبعوث الأميركي الخاص المعنيّ بالملفّ الإيراني، روبرت مالي، والذي يفيد بأن إيران ليس لديها قرار بالحصول على قنبلة نووية في هذا الوقت.