لندن | قرّر رئيس الوزراء الإسباني، زعيم «حزب العمال الاشتراكي» بيدرو سانشيز، حلّ البرلمان، والدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في تموز المقبل، بدلاً من نهاية العام، وذلك في ضوء هزيمة أحزاب الائتلاف الحاكم الذي يقوده سانشيز، في الانتخابات الإقليمية والبلدية التي أُجريت يوم الأحد الماضي، واكتساح المحافظين واليمين المتطرّف مجالسها. ودفعت هذه المناورة السياسية المفاجئة، رابع أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، إلى قلْب أزمة تحالفات على جانبَي الطيف السياسي، في الوقت الذي تستعدّ فيه المملكة الإسبانية لتولّي الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي لمدّة ستة أشهر
في ما وُصف من جانب المراقبين بأنه «تكتيك فائق الحِرفيّة»، أعلن رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، مطلع الأسبوع الجاري، حلّ البرلمان، والدعوة إلى انتخابات عامّة مبكرة ستُجرى في الـ23 من تموز المقبل، وذلك في ضوء المكاسب المهمّة التي حقَّقها المحافظون واليمين المتطرّف في الانتخابات الإقليمية والبلدية (الأحد)، على حساب أحزاب الائتلاف اليساري الحاكم منذ عام 2019. وجاء هذا الإعلان المفاجئ في أعقاب حملة قادها «حزب الشعب» (يمين الوسط) لإدانة المواقف السياسية والأخلاقية لسانشيز، الذي أصبح يمثّل مصدر استقطاب عميق في الداخل، ويصوَّر من جانب رئيس الحزب المعارض، ألبرتو نونيز فيجو، على أنه «رجل ميكافيللي عديم الضمير، وغير جدير بالثقة». واستطاع «حزب الشعب» تحقيق مكاسب على المستوى الإقليمي ليفوز بـ12 من أصل 17 إقليماً إسبانيّاً، وأكثر من ثمانية آلاف بلديّة. وضعفت مكانة سانشيز على خلفية تحالفات سياسية أثارت امتعاض التيّارات الملكيّة المحافِظة في البلاد، عندما تلاقى لتشكيل الحكومة مع برلمانيين من حزب الوسط: «الانفصاليون الكاتالونيّون»، و«الحزب القومي الباسكي»، الذي كان من بين مرشّحيه الانتخابيين أعضاء سابقون في «إيتا»، الجماعة الثورية المنحلّة، والتي أدينت من قِبَل مدريد بارتكاب جرائم في إطار مساعيها للانفصال.
وفي بيان متلفز من قصر مونكلوا، المقرّ الرسمي لرئيس الحكومة الإسباني، تحمَّل سانشيز المسؤولية الشخصيّة عن الأداء الضعيف للائتلاف الحاكم في الانتخابات المحلّية، والتي انتهت إلى تقدُّم «حزب الشعب» (يمين الوسط) في معظم المدن الكبرى في البلاد، بما في ذلك إشبيلية، المعقل الاشتراكي منذ فترة طويلة. وقال: «تستوجب النتائج توضيحاً من الإسبان في شأن السياسات التي يتعيّن على الحكومة تطبيقها وأيّ القوى السياسية يتعيّن أن تقود هذه المرحلة»، معتبراً أن «هناك طريقة واحدة لحسم كلّ الشكوك. وهذه الطريقة هي الديموقراطية». ويرى مراقبون أن خطوة سانشير هذه ستكون حتماً مقامرته الأكثر جرأة إلى الآن، في سيرة مهنيّة حافلة بالرهانات. وعلى رغم تقمّصه مظهر الزعيم الذي يستمع إلى خيارات الشعب، وعدم مناسبة الوقت لناحية تولّي إسبانيا الرئاسة الدورية الأخيرة للاتحاد الأوروبي قبل انتخابات البرلمان الأوروبي في العام المقبل، فإن من مصلحة سانشيز الشخصيّة تقديم موعد الانتخابات ستة أشهر - بدلاً من موعدها العادي في كانون الأول المقبل -، ولا سيما وأن ذلك قد يمنحه حظوظاً أفضل لترتيب أمور اليسار الإسباني، في موازاة توريط غريمه، «حزب الشعب»، في تحالف ضرورة محتمل مع «حزب فوكس» (أقصى اليمين) الذي تَسهل تعبئة الفئات غير المسيّسة من الناخبين ضدّه.
من شأن تقديم موعد الانتخابات أن يمنح سانشيز الفرصة للاستفادة من ضعف الحزبَين اليساريَّين المنافسَين لـ«الاشتراكي»


في المقابل، فإن البقاء في الحُكم حتى دورة الانتخابات العادية نهاية العام الجاري، لن يعني سوى مزيد من الفرص للجميع في اليسار واليمين وحتى داخل الحزب الاشتراكي للتصويب على سانشيز، وبناء تحالفات متينة ستطيح به، وفق أغلب التوقّعات. ويعاني رئيس الوزراء انقساماً شديداً داخل حزبه، حيث يَعتبره كثيرون بمثابة لاعب سياسيّ ماهر معنيّ بالوصول إلى السلطة بأيّ ثمن. ومن هنا، فإن استدعاء انتخابات مبكرة خلال أقلّ من شهرين، سيفرض على «الاشتراكي» حسْم كلّ جدل، أو المخاطرة بالتلاشي من أروقة صنْع القرار في مدريد تماماً، لمصلحة اليمين. وكان سانشيز قد ظهر فجأة على المسرح السياسي عام 2014، ليفوز بزعامة «حزب العمال الاشتراكي»، الذي قاده إلى هزيمتَين انتخابيتَين ثقيلتَين قبل الإطاحة به، ولكنه نجح، بعد ثمانية أشهر (2017)، في استعادة موقع القيادة مجدّداً. وفي العام التالي، أصبح رئيساً لوزراء المملكة، مستفيداً من تصويت بحجب الثقة عن الحكومة القائمة حينذاك بسبب اتّهامات بالفساد، وشكّل لاحقاً حكومة ائتلاف لليسار بعد انتخابات 2019 العامة. على أن فترته في المنصب شهدت تشرذماً غير مسبوق للأحزاب اليسارية، وتراجعاً في التأييد الشعبي لليسار، على الرغم من نجاح سياسات الائتلاف الاقتصادية بشكل عام في تحقيق مستويات نموّ أفضل من الولايات المتحدة وأكبر اقتصادات الاتحاد الأوروبي. لكن انفجار التضخّم والارتفاع المتصاعد في تكاليف المعيشة نتيجة الحرب الأوكرانية، أطاحا بكلّ المكاسب، لتعجز المملكة بالتالي عن استعادة مستوى الناتج المحلّي الإجمالي إلى مستويات ما قبل الوباء، ما يتركها في سلّة واحدة مع أسوأ اقتصادات أوروبا لتلك الناحية، رفقة اليونان وإيطاليا وفرنسا. وبحسب الخبراء، فإن إسبانيا التي تشهد واحداً من أعلى مستويات التوظيف في تاريخها المعاصر، تعاني في الوقت ذاته تقلُّصاً حادّاً في قيمة الأجور، إذ يقول كثيرون إن دخلهم الفعليّ أقل عمليّاً من دخل جيل آبائهم قبل 25 عاماً. ولذلك، فإن غالبية الناخبين - غير المسيّسين - غير متأكدين من موقفهم تماماً.
ومن شأن تقديم موعد الانتخابات أن يمنح سانشيز الفرصة للاستفادة من ضعف الحزبَين اليساريَّين المنافسَين لـ«الاشتراكي»، ولا سيما أن القانون الإسباني يفرض تسجيل الائتلافات الانتخابية خلال عشرة أيّام من حلّ البرلمان. وظهر حزب «بوديموس» في حالة يرثى لها في انتخابات الأحد الإقليمية والبلدية، فيما حزب «سومار» - الذي أسّسته هذا العام الشيوعية يولاندا دياز، إحدى نائبات رئيس الوزراء - لن يتمكّن من التحضير بشكل كافٍ لانتخابات تموز، ما قد يدفعهما للخضوع لسانشيز أو المخاطرة بفقدان جمهورهما لمصلحة «الاشتراكي»، الحزب اليساريّ الوحيد الذي سيكون منافساً جادّاً. على أن قرار سانشيز الدعوة إلى انتخابات مبكرة لن يضع اليسار وحده تحت ضغط التوحّد خلفه أو مواجهة الكارثة، بل سيدفع أيضاً اليمين المحافظ الإسباني - ممثَّلاً بـ«حزب الشعب» - إلى زاوية حرجة، بالنظر إلى أن الأخير لم يحقّق غالبية مطلَقة في المجالس التشريعية الإقليمية خارج العاصمة، ما سيجعله مضطراً، إن أراد تولّي السلطة، إلى بناء تحالف انتخابي وائتلاف نيابيّ مع «حزب فوكس» المناهض للمهاجرين، والمعادي للاتحاد الأوروبي. ومن دون شكّ، سيوظّف الاشتراكيون ذلك كشبح لتخويف الناخبين الوسطيين، وجذبهم نحو اليسار.
وسيصوّت الناخبون الإسبان، في تموز المقبل، لانتخاب ممثّليهم الـ350 في مجلس النواب، بالإضافة إلى 208 مقاعد من أصل 265 مقعداً في مجلس الشيوخ. وفاز «حزب العمال الاشتراكي» بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات 2019، لكنه لم يحصل على الغالبية، ما حدا به إلى تشكيل ائتلاف يبقيه في السلطة، فيما يُعتبر «حزب الشعب» هو الأكبر في مجلس الشيوخ الحالي. وتقول استطلاعات نوايا التصويت، إن البلاد منقسمة بين كتلتَين متعادلتَين تقريباً من مؤيّدي اليسار ومؤيّدي اليمين، الأمر الذي يجعل فرص الوصول إلى السلطة مرتبطة إلى حدّ بعيد بالمهارة السياسية وهندسة التحالفات، والتي يظلّ سانشيز، على رغم كلّ شيء، الأقدر ربّما على القيام بها خلال فسحة الأسابيع القليلة المقبلة.