«الطاقة، المناخ، وربما عملة جديدة لمواجهة نفوذ الدولار الأميركي». بهذه العناوين، اختصر الرئيس البرازيلي لولا ذا سيلفا، أمس، النقاط الرئيسة التي سيبحثها قادة أميركا اللاتينية في أوّل قمّة إقليمية تجمعهم اليوم، منذ نحو تسع سنوات. على أن ما يميز القمّة أيضاً هو انعقادها في وقت تبذل فيه بعض هذه الدول جهوداً لحلّ المشاكل العالقة وتحقيق «التكامل»، وتُكثّف مساعي مشتركة لفرض نوع من «الاستقلالية» عن الغرب، ما يدفع محلّلين إلى الحديث عن إمكانية عودة «اتحاد دول أميركا الجنوبية» السابق
«عودة» فنزويلا
افتُتحت فعاليات القمّة باستقبال لولا الرئيس الفنزولي، نيكولاس مادورو، في أوّل زيارة يجريها الأخير إلى البرازيل منذ ثماني سنوات، علماً أنّه مُنع، مع عدد كبير من أعضاء حكومته، من دخول الأراضي البرازيلية في عهد الرئيس البرازيلي اليميني المتطرّف السابق، جايير بولسونارو، الذي كان يعترف بالمعارض خوان غوايدو «رئيساً» لفنزويلا بدلاً من مادورو. وفي مؤتمر صحافي مشترك بعد اللقاء، أعلن مادورو فتح «حقبة جديدة في العلاقات بين البلدين والشعبين»، فيما اعتبر لولا أن هذه «اللحظة التاريخية» تشكل «عودة مادورو إلى ساحة أميركا اللاتينية»، متسائلاً: «كيف تمكنت قارة عاشت الديموقراطية بكامل فصولها، عبر إنشاء الاتحاد الأوروبي، من أن تتقبّل فكرة أن يصبح محتال رئيساً لفنزويلا، لمجرّد أن الشخص الذي تمّ انتخابه لم يَرُق لها؟»، في إشارة إلى المعارض غوايدو.
وفي السياق، نقلت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية عن أستاذة العلاقات الدولية في جامعة ساو باولو الفيدرالية، كارولينا سيلفا بيدروسو، قولها إنه «بغضّ النظر عمّا إذا كانت الحكومتان تتّفقان مع بعضهما البعض، فإن فنزويلا دولة جارة ولا يمكن تجاهلها أو قطع العلاقات الدبلوماسية معها، لأن لدينا قضايا عملية تحتاج إلى حلّ»، مشيرةً إلى أن البرازيل «يمكن أن تؤدي دور الوسيط في الأزمة السياسية في فنزويلا، كما أنّها تريد تقليل عدد المهاجرين الذين يعبرون الحدود إليها، والذين بلغ عددهم أكثر من 400 ألف منذ عام 2018».

«القارة لا تصغي»
ينشط لولا بشكل «بارز» أخيراً لإعادة توحيد حكومات القارة، و«ترميم» العلاقات الديبلوماسية التي تدهورت بين عدد منها، وفرض «تكتّل» وازن على الساحة العالمية، وذلك بغرض تحقيق هدف أساسي هو، بناءً على مواقف لولا في الفترة الأخيرة، تخفيف «الاعتماد على الولايات المتحدة وعملتها» والتبعية لها. وقبْيل هذه القمة، قال لولا إن التوصل إلى «عملة محلية تتيح لدول القارة القيام بأعمال تجارية من دون الاعتماد على الدولار» هو بمثابة «حلم» يراوده، لأن «الولايات المتّحدة هي من تملك الدولار وهي القادرة على فعل ما تريده به». ولا تُعد هذه التصريحات جديدة على لولا، الذي دعا في وقت سابق إلى إنشاء عملة موحّدة لمنظمة «البريكس»، وانتقد «صندوق النقد الدولي» متّهماً إيّاه بـ«خنق» اقتصادات الدول كما يحصل في الأرجنتين، ما جعل مراقبين يحذّرون من أنّه في حال فُرضت عملة «بريكس» جديدة مقابل الدولار، فقد يُضعف ذلك قوة العقوبات الأميركية، ويؤدي إلى مزيد من الانخفاض في قيمة الدولار، وإلى أزمة اقتصادية تُطاول الأسر الأميركية.
إلا أن التحوّلات التي يشهدها العالم، وعلى رأسها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبروز الصين كشريك تجاري رئيسٍ للقارة، تتيح، إلى جانب قيادة لولا للبرازيل، للعديد من دول القارة اتّخاذ خطواتها المستقلّة عن واشنطن والغرب ككلّ، في ما يتعلّق بالقرارات السياسة والاقتصادية على حدّ سواء. وفي هذا الإطار، لفتت صحيفة «بوليتيكو» الأميركية، أواخر هذا الشهر، إلى أنّه «في نضالها من أجل كسب القلوب والعقول ضد روسيا، تضع أوروبا نصب عينها هدفاً جديداً (أي القارة اللاتينية). ولسوء حظهم، فإنّ أميركا اللاتينية لا تُصغي لهم». في جولته الأخيرة، والأولى أيضاً منذ خمس سنوات، على القارة، حاول وزير الخارجية البريطاني، جيمس كليفرلي، على مدى أسبوع استمالة قادة الدول اللاتينية، لاسيما البرازيل وكولومبيا وتشيلي، لدعم أوكرانيا، مولياً اهتماماً خاصاً للعلاقات التجارية بين بريطانيا ودول القارة. وعلى الأرجح، لم تحقّق زيارته الأهداف المرجوّة. ففي حديث مع «بوليتيكو»، ورداً على سؤال عما إذا كانت تشيلي ستقتنع بتقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، قال مسؤول تشيلي: «هذا لن يحدث، على الإطلاق... إنه موضوع يجب أن تحلّه القوى الكبرى، لا مسألةً يمكننا حلّها من آخر العالم». بدوره، استبعد مسؤول برازيلي أيّ زيادة في الدعم البرازيلي لكييف، مشيراً إلى أنّه «في عالم مثالي، قد تريدنا المملكة المتحدة أن نشارك في العقوبات على روسيا، لكنّها أذكى من أن تصدّق أنّه يوجد عالم مثالي».
بحسب الصحيفة، فإنّ العلاقة الاقتصادية مع الصين تعدّ من أكثر النقاط حساسية لدى دول أميركا اللاتينية، لاسيما أن بكين تبقى الشريك التجاري الأكبر لدول مثل البرازيل وتشيلي، علماً أن التجارة بين الصين والقارة شهدت قفزة هائلة هذا القرن، من 12 مليار دولار في عام 2000 إلى 495 مليار دولار في عام 2022، بحسب صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية. كما أنه ما من حكومة «يسارية» ستحبّذ معاداة بكين، بحسب الصحيفة، لا سيما بالنظر إلى تاريخ واشنطن مع الحكومات اليسارية في القارة. وفي السياق، نقلت «بوليتيكو» عن المسؤول التشيلي قوله أيضاً بعد انتهاء زيارة كليفرلي: «إذا كنت تريد التنافس مع الصين، فعليك أن تدفع». وتابع: «عليك أنّ تقدّم شيئاً بديلاً». أمّا المسؤول البرازيلي، فاعتبر أنّه من «السخافة» أن تحاول بريطانيا، التي تسعى بدورها لإقامة توازن مناسب في علاقتها مع الصين بما يتناسب مع مصالحها، الطلب من البرازيل «تقليل التجارة مع الصين»، مؤكداً أنّها لن تنجح في ذلك.
وحتى حكومة رئيس الإكوادور، غويلرمو لاسو، المحافظ الذي تلقّى تعليمه في الولايات المتحدة، وقعت أخيراً اتفاقاً تجارياً مع الصين، وحصلت من بكين على تخفيض للديون بقيمة 1.4 مليار دولار العام الماضي، ما دفع لاسو إلى وصف الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بالـ«متفهّم جداً». ويأتي هذا في وقت يقول فيه الخبراء إن تجربة الإكوادور مع الصين تُظهر كيف تخاطر الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى بفقدان المزيد من النفوذ في أميركا اللاتينية في مواجهة بكين، مشيرين إلى أن عليها توفير فرص تجارية واستثمارية أفضل للقارة، ووضع أجندة فعّالة إزاء التعاون الاقتصادي معها لمنع ذلك، وهو ما لم يحصل بعد.
ختاماً، يتحدّث مراقبون عن محاولات لإعادة «اتحاد دول أميركا الجنوبية» السابق (أوناسور)، وهو منظّمة أسّسها لولا ونظيره الفنزويلي حينها، هوغو تشافيز، في العام 2008، بعدما شهدت المنطقة أوّل موجة من صعود الحكومات اليسارية، بالرغم من صعوبة تطبيق ذلك عملياً في الظروف الراهنة، لاسيما نظراً إلى العلاقات الديبلوماسية المتوتّرة والاضطرابات الداخلية التي تشهدها بعض هذه البلدان، والتي قد يكون أبرز مؤشّر عليها حضور قادة 11 دولة القمّة بدلاً من 12، بعد تغيب رئيسة البيرو دينا بولوارتي. مع هذا، ثمّة أهداف مشتركة تجمع بين غالبية هذه الدول، على رأسها تنويع خياراتها بما يصبّ في مصالحها، وهو ما تلجأ إليه تباعاً المزيد من الدول حول العالم.