مع بلوغ هنري كيسنجر، عميد الدبلوماسية الأميركية، أعوامه المئة، سارعت بعض وسائل الإعلام إمّا لمحاولة استنباط آرائه حول التحوّلات التي يشهدها العالم، أو لإجراء «جردة حساب» لسياساته، والتي يمكن مَن يتمعّن فيها الاستنتاج بأن الرَّجل أمضى نحو نصف قرنٍ على الأقل، محاولاً إنكار مجموعة من الجرائم التي سبّبتها إرشاداته، حول العالم. ويكادُ كيسنجر يكون حاضراً في كلّ لحظة مفصليّة من تاريخ الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية، وصولاً إلى الحرب الأوكرانية المندلعة منذ ما يزيد على عام، إذ لا يزال لـ«إرشاداته» المذكورة، وزنٌ لدى صنّاع السياسة الأميركيين. ففي سنوات تولّيه وزارة الخارجية ومستشارية الأمن القومي، بين عامَي 1969 و1977، اعترفت الولايات المتحدة بجمهورية الصين الشعبية بقيادة ماو تسي تونغ - بعد 30 عاماً على تأسيسها -، بصفتها ممثّلاً شرعيّاً ووحيداً للشعب الصيني، بدلاً من نظام شيانغ كاي شيك الذي كان فرّ نحو جزيرة تايوان؛ ووُضعت سياسة إدارة ريتشارد نيكسون حول مهادنة الاتحاد السوفياتي موضع التنفيذ.بيدَ أنّ تاريخاً من السياسات الإجرامية ودعْم الانقلابات ونظام الفصل العنصري وغيرها، يطغى بلا شكّ على سجلّ الدبلوماسي الأميركي. فلا يمكن استذكار كيسجنر مثلاً، من دون ذكر الانقلاب الذي أطاح الرئيس التشيلي الاشتراكي، سيلفادور أليندي، ووضع البلد تحت رحمة حكم الديكتاتور أوغستو بينوشيه لـ17 عاماً. ففي ذلك الوقت، ضرب كيسنجر عرض الحائط بتحذيرات مساعديه حول الفظائع التي يرتكبها النظام العسكري في هذا البلد، والتي أسفرت لاحقاً عن سقوط آلاف القتلى، قائلاً لبينوشيه، في عام 1976: «نريد مساعدتك، لا تقويضك. لقد أدّيت خدمة عظيمة للغرب بإطاحتك أليندي». كما استحوذت سياسات كيسنجر في جنوب الكرة الأرضية، ولا سيما في أفريقيا، على اهتمام خاصّ من بعض المراقبين، نظراً إلى سجلّه الحافل و«الكئيب» هناك، وفشل استراتيجية واشنطن في منتصف السبعينيات، والتي أوصت بأن «تميل» الولايات المتحدة نحو الأنظمة الاستعمارية التي يحكمها البيض في المنطقة، لـ«حماية المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة»، أو لدعم حصول تغيير لصالح «حكم الأكثرية» في زمبابوي و«تحقيق المصير» في ناميبيا مثلاً. فآنذاك، لم يَفهم كيسنجر أنّ النضال في سبيل التحرُّر هو المعيار الذي كان يَحسم مَن يستولي على السلطة في أفريقيا، وأنّه لا يجب بالتالي العمل على استعادة «مصالح الأقوياء» لإحلال التوازن والاستقرار. وحتى بعدما أدرك كيسنجر متأخراً - بعد تدخُّل كوبا في أنغولا - أن عليه إعادة صياغة نهج واشنطن تجاه أفريقيا، لاجئاً إلى «الدبلوماسية المكوكية»، ظلّت سياساته «ملائمة» بوضوح لأنظمة الفصل العنصري. وتطول اللائحة، ما بين إعطاء كيسنجر «الضوء الأخضر» لـ«الحرب القذرة» التي شنّها النظام العسكري في الأرجنتين على الجناح اليساري وأسفرت عن مقتل نحو 30 ألف شخص، أو الإشراف على القصف الوحشي في لاوس، والذي أودى بحياة نحو 200 ألف شخص، وغيرها من السياسات المباشرة أو غير المباشرة أو التي لم تُوثَّق أصلاً.
ربما يكون الانسحاب الأميركي المتهافت من فييتنام عام 1973، أبرز محطّات سياسات كيسنجر


وربما يكون الانسحاب الأميركي المتهافت من فييتنام عام 1973، حيث قُتل ما بين مليونين ونصف مليون وثلاثة ملايين شخص، أبرز محطّات سياسات كيسنجر، فيما اتضح لاحقاً، في حين إماطة اللثام عن وثاق سريّة، أن مجازر أبعد من حدود فييتنام ترتّبت على هذا الانسحاب، ولا سيما في كمبوديا المجاورة. فعلى رغم أنه تمّ توثيق القصف الكثيف أو «السجادي» لكمبوديا بين عامَي 1969 و1973 بشكل «جيّد نسبياً»، إلا أنّ حفنة من الوثائق السرية التي نشرها موقع «ذي إنترسبت» لمناسبة العيد المئة لمهندس هذا القصف، كشفت أن كيسنجر يتحمّل مسؤولية عنف ودمار أكبر بكثير ممّا تمّ توثيقه تاريخيّاً. ففي إحدى ليالي كانون الأول من عام 1970، يوثّق اتّصالٌ جرى بين الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون، ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، غضب الأوّل وإبلاغه الثاني بأنه يريد أن تتحرّك سفن الهليكوبتر، والطائرات الحربية و«كل ما يمكن أن يطير» فوراً، والدخول إلى كمبوديا وقصف «كلّ شيء»، وفق ما دوّنته إحدى مساعدِات كيسنجر. وبعدها بخمس دقائق، اتّصل كيسنجر بمساعده العسكري، الجنرال ألكسندر هيغ، لينقل إليه أمر قصف كمبوديا بلا هوادة، قائلاً: «إنه أمر، ويجب تنفيذه. أطلق أيّ شيء يطير على أيّ شيء يتحرّك. مفهوم؟».
يستند التحقيق الذي أجراه «إنترسبت»، على أرشيف حصري من الوثائق العسكرية الأميركية السرية ومقابلات مع السكان الكمبوديين، ليقدّم أدلّة على هجمات أميركية لم يتمّ الإبلاغ عنها سابقاً، أسفرت عن مقتل مئات المدنيين الكمبوديين أو إصابتهم خلال فترة وجود كيسنجر في البيت الأبيض. أدلّةٌ عن أعداد ضحايا لا تزال تقريباً غير معروفة لدى الشعب الأميركي أو غيره، وعن عشرات التفجيرات والغارات التي ظلّت مُخفاةً أيضاً، إلى درجة أن السكّان الذين قابلهم مُعدّ التحقيق هناك، تفاجأوا بأن مواطناً أميركيّاً «يعرف شيئاً عن قصّتهم». وتكشف هذه المقابلات مع أكثر من 75 شاهداً وناجياً كمبودياً تفاصيل الصدمة التي يعاني منها الناجون، بعدما اتّضح أن الهجمات التي ارتكبتها الولايات المتحدة «أكثر فظاعة» من العنف الذي يُنسب أصلاً إلى سياسات كيسنجر، إذ لم يتمّ قصف القرى الكمبودية فحسب، بل تمشيطها وحرقها ونهبها ونهب ممتلكات سكانها من قِبَل القوات الأميركية والقوات الحليفة لها.
واللافت أيضاً، أن كيسنجر استطاع، على مدى عقود من الزمن، التهرّب من الإجابة على الأسئلة المتعلّقة بقصف كمبوديا، وقضى «نصف حياته يكذّب في شأن دوره في عمليات القتل هناك». وفي عام 1973، خلال جلسات استماع في مجلس الشيوخ لتثبيت تعيينه وزيراً للخارجية، سُئل كيسنجر عمّا إذا كان يوافق على الإبقاء على سريّة الهجمات على كمبوديا، فبدأ بتبرير هذه الاعتداءات بشتّى الحجج، زاعماً بأنّ ما حصل لم يكن «قصفاً على كمبوديا، بل كان استهدافاً لفييتناميين شماليين هناك». على أيّ حال، تعارضت أدلة السجلّات العسكرية الأميركية وشهادات شهود عيانٍ بشكل مباشر مع هذا الادّعاء، قبل أن يدحضه، في وقت لاحق، كيسنجر نفسه.
بعد مضيّ عقود، لا يزال الناجون من تلك الهجمات الفظيعة غير مدركين تماماً سبب تعرّضهم لمثل هذا الهجوم، وتشويه العديد من أحبائهم وقتلهم. وبحسب الكاتب، سيكون من الصعب على هؤلاء تصوُّر أن معاناتهم ترجع في جزء كبير منها إلى رجل يُدعى هنري كيسنجر، ومخطّطاته الفاشلة الهادفة إلى تحقيق «النهاية المشرّفة للحرب في فييتنام» التي وعد بها رئيسه، وذلك من خلال توسيع الصراع وإطالة أمده. فبالنسبة إلى نيكسون وكيسنجر، كانت كمبوديا عرضاً جانبيّاً يهدف إلى تشتيت الانتباه عن فشل الولايات المتحدة في فييتنام.
تكشف الملفات العسكرية، والمقابلات التي أجراها الموقع مع الناجين الكمبوديين والعسكريين الأميركيين والمقرّبين من كيسنجر والخبراء، أن الإفلات من العقاب - مرّة جديدة -، لم يقتصر على البيت الأبيض، بل شمل الجنود الأميركيين الذين تواجدوا على الأرض، إذ لم يتمّ فرض أيّ عقوبات تُذكر على القوات المتورّطة في قتل المدنيين وتشويههم. وعلى رغم ذلك، يتساءل الخبراء، مع إماطة اللثام عن هذه المعطيات، عن إمكانية إعادة تفعيل الجهود التي طال انتظارها لمحاسبة كيسنجر بتهمة ارتكاب «جرائم الحرب». إلّا أن هذا الأخير، ولدى سؤاله عن هذه المعلومات، يردّ «بسخرية» على الموقع، رافضاً الإدلاء بأيّ تعليق.