في تطبيق دقيق للغاية لمخرجات القمّة الأميركية - الأفريقية نهاية العام الماضي، وفي مؤشّر إلى وجود رغبة قوية لدى واشنطن في العودة إلى القارّة الأفريقية، على رغم الانتقادات التقليدية لسياسات الولايات المتحدة الأفريقية منذ سنوات، نحت إدارة جو بايدن إلى تكثيف زيارات كبار مسؤوليها (أبرزها جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن مطلع آذار، وجولة قرينة الرئيس جيل بايدن قبل أقلّ من أسبوعين) إلى أفريقيا جنوب الصحراء منذ مطلع العام الجاري، لتُختتم هذه الزيارات في نهاية الشهر الجاري ومطلع نيسان، بجولة مهمّة لنائبة الرئيس كامالا هاريس في غانا وتنزانيا وزامبيا، في ما بدا تمهيداً لجولة قريبة لبايدن نفسه، لم تتحدّد محطّاتها بعد، وإنْ ظهرت أديس أبابا كمحطّة تقليدية ومهمّة. وينكشف وجه الدقّة المُشار إليها، بالنظر إلى أن القمّة المذكورة عوّلت بقوّة على عدّة عناصر مِن مِثل تعزيز السياسات الاقتصادية الأميركية الجديدة في أفريقيا، وتعظيم الاستفادة من الصلات بين أفريقيا وأفارقة الشتات، والذين تنحدر منهم هاريس نفسها
توجّهت كامالا هاريس، في بدء جولتها (26 آذار) إلى غانا، التي أضحت بدورها، أخيراً، قِبلة لزيارات مكثّفة من مسؤولين سياسيين وأمنيين غربيين، في مواجهة التهديدات المختلفة للمصالح الأوروبية والأميركية والإقليمية في غرب أفريقيا، ومن بينها التوغّل الروسي والصيني «غير المنضبط» في الإقليم. وتعهّدت نائبة الرئيس الأميركي، على الفور، بتعظيم بلادها الاستثمارات في أفريقيا، ومساعدة الأخيرة في التعافي الاقتصادي، معلِنةً عن حزمة مساعدات أميركية لهذه الدولة (وأربع دول في غرب أفريقيا)، في عام 2024، بقيمة 139 مليون دولار (وهي حزمة تقترب من إجمالي المخصّصات الأميركية التي أعلنها أنتوني بلينكن، منتصف آذار، لإقليم الساحل بقيمة 150 مليون دولار).
وواكبت الزيارةَ توقّعاتٌ بتحسّن نسبي في الأداء الاقتصادي في غانا، بعد شهور من أزمة اقتصادية حادّة تجلّت في تجاوز نسبة التضخّم حاجز الـ 40% في عام 2022، ثمّ 50% في الربع الأول من العام الحالي، وحلول هذه الدولة ضمن قائمة عالمية لأكثر الدول التي تهاوت عملاتها في العام نفسه. وللمفارقة، فإن زيارة هاريس التي حملت عنواناً رئيسيّاً هو مواجهة الصين، أكبر مقرِض مفرد لغانا بديون تقترب من مليارَي دولار، على رغم تعهّد واشنطن «بعدم مطالبة القادة الأفارقة بالاختيار بين الولايات المتحدة والصين»، قد تلت زيارة وزير المالية الغاني، كين أوفوري - أتا، لبكين، والتي شملت مناقشات لتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدَين (اقتربت صادرات الصين لغانا من حاجز 7 مليارات دولار بتقديرات عام 2020، مقابل واردات من غانا بحدود 250 مليون دولار فقط، بينما لم تتجاوز التجارة بين الولايات المتحدة وغانا حاجز المليار دولار، منها نحو 200 مليون دولار صادرات غانية)، وأعلن خلالها أوفوري - أتا عن تحسّن مرتقب في الأداء الاقتصادي لبلاده. وتعهّدت هاريس، في ختام زيارتها لغانا، بتوفير نحو مليار دولار «تمويلاً عامّاً وخاصاً لتمكين المرأة اقتصادياً»، على أن يتوفّر التمويل من خليط من المؤسّسات غير الهادفة للربح والشركات الخاصّة والحكومة الفيدرالية، وهو ما قد لا يجد سبيله إلى التنفيذ، كما حصل لتعهّدات سابقة.
تتّضح صعوبة نجاعة الاستراتيجية الأميركية في تقليص الحضور الصيني في الدول الأفريقية الثلاث


وفي تنزانيا، تزايدت التوقّعات بأن تسفر زيارة هاريس (30 آذار) عن نتائج إيجابية للغاية في مجالات التعاون الثنائي بين البلدَين، وعلى رأسها التجارة والسياحة والتعليم والصحة والزراعة وغيرها، إضافة إلى ملفّ الأمن والدفاع. كما جاءت الزيارة لتُعزّز التقارب الملحوظ بين الجانبَين، منذ رحلة الرئيسة التنزانية، سامية حسن، إلى واشنطن قبل نحو عام (نيسان 2022)، واللقاء المهمّ بينها وبين هاريس، وتعهُّد شركات أميركية متنوّعة باستثمارات تقترب من مليار دولار في تنزانيا (أغلبها في قطاع الشركات الناشئة). وبينما اعتبر مراقبون تنزانيون أن زيارة نائبة الرئيس الأميركي لبلادهم تمثّل بشكل مباشر دعماً أميركياً صريحاً لسامية حسن التي تستكمل فترة رئاسة الرئيس السابق، جون ماجوفولي، إثر وفاته قبل عامين، فإن قطاعات أعمال ناشئة تُعوّل على مخرجات الجولة لتعزيز الشراكة مع الشركات والجامعات الأميركية في جوانب متعدّدة مِن مِثل الذكاء الاصطناعي والتعليم الآلي، إضافة إلى البناء على العلاقات الوثيقة بين البلدَين منذ عام 1961، ومضاعفة التعاون الاقتصادي بينهما. وبينما يتضاءل التبادل التجاري بينهما، مستقرّاً عند نحو 300 مليون دولار (مقابل 4.2 مليارات دولار بين الصين وتنزانيا، أغلبها صادرات صينية)، فإن الولايات المتحدة تملك استثمارات هائلة في هذا البلد، عبر ما لا يقلّ عن 260 مشروعاً بقيمة 4.8 مليارات دولار، وتُوظّف نحو 55 ألف تنزاني، فيما يمثّل السيّاح الأميركيون رقماً مهمّاً في السياحة التنزانية بوصول نحو 100 ألف سائح أميركي سنوياً إلى البلاد.
أمّا زامبيا، التي يصل حجم التبادل التجاري بينها وبين الولايات المتحدة إلى أقلّ من 200 مليون دولار (2020) مقارنة برقم مضاعف مع الصين عند 960 مليون دولار، فإنها تحظى باهتمام أميركي متزايد من زاوية أمنية واضحة - وفق ما كشفته أجندة وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، خلال زيارتها للوساكا في كانون الثاني الفائت -، وخصوصاً أن زامبيا حافظت على سياسة «عدم انحياز»، وعزّزت بشكل كبير من صلاتها الاقتصادية مع الصين في الأعوام الأخيرة. وأثارت زيارة هاريس لهذا البلد انتقادات كبيرة في أوساط المعارضة الزامبية، التي أدرجتها في إطار «انتهاك سيادة البلاد ومحاولة فرْض خيارات على سياساتها الخارجية». واستهجن زعيم المعارضة الزامبي، بريان ماندوبيلي (29 آذار)، حقيقة أنه على رغم بقاء بلاده غير منحازة لسنوات طويلة، وانتهاجها سياسة منفتحة مع جميع الدول، «فإن الحكومة الأميركية تثير مخاوفها من علاقات بلادنا مع الصين».

تحييد العامل الصيني: صعوبة المهمّة
يتّضح من قراءة صلات الصين بالدول الثلاث (غانا وتنزانيا وزامبيا) صعوبة المهمّة الأميركية في تحييد العامل الصيني، على الأقلّ على الصعيد الاقتصادي. وعلى سبيل المثال، فإن العلاقات الصينية - الزامبية تتّسم بالعمق منذ أن بادرت بكين إلى دعم حركات التحرّر الوطني في أفريقيا الجنوبية ككلّ، وفي زامبيا خصوصاً، التي كانت الصين أيضاً من أولى الدول التي اعترفت باستقلالها (بعدما خضعت لنظام عنصري في ظلّ ما عُرف وقتها بـ«اتحاد روديسيا ونياسلاند»). كما أن الصين مستثمر رئيسيّ في مشروعات البنية الأساسية داخل زامبيا وتنزانيا، مِن مِثل خطوط السكك الحديدية ومحطّات الطاقة و«مطار كيني كاوندا» الدولي في لوساكا. أيضاً، جذبت زامبيا - بحسب تقديرات محلّية زامبية - استثمارات من شركات صينية بقيمة 3 مليارات دولار، لتحلّ في المرتبة الثانية لتلقّي الاستثمارات الصينية في أفريقيا جنوب الصحراء، بعد كينيا مباشرة. هنا، يبدو لافتاً المقال الذي نشرته صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية للرئيس الزامبي، هاكيندى هيشيليما (28 آذار)، بعنوان لافت هو: «لا يمكنك التقوّت بالديموقراطية»، والذي مثّل مؤشّراً مهمّاً إلى تراجُع بند «دعم الديموقراطية»، أو تهميشه واقعياً في ظلّ التحوّلات الاقتصادية الراهنة - على رغم أن هيشيليما جاء بانتخابات ديموقراطية (2021) بعد فوزه على الرئيس السابق -، وتحت وطأة استحكام أزمة الديون التي تُواجهها بلاده، ما يعزّز فرضية تفضيل الدول الأفريقية النموذج الصيني بأبعاده كافة.

يمكن ملاحظة أن الوجود الأمني الروسي في القارّة ظَلّ عند مستويات «مقبولة» أميركياً قبل اندلاع الأزمة في أوكرانيا


كذلك، تتّضح صعوبة نجاعة الاستراتيجية الأميركية في تقليص الحضور الصيني في الدول الثلاث، في حالة غانا، التي أكملت مساعيها الحثيثة للحصول على تسهيلات صينية قُبيل استقبال هاريس بساعات. وفي مقابل ما وعدت به واشنطن على لسان هاريس من دعم اقتصادي (غير مؤمَّن بعد في أغلبه ومرهون بقدرة الإدارة على حشد موارد لتمويله من القطاع الخاص)، فإن الحكومة الصينية وعدت أكرا بمساعدتها في إعادة هيكلة 1.7 مليار دولار من ديونها (المستحَقّة لبكين ضمن حزمة 5 مليارات دولار إجمالي ديون مستحَقّة على غانا لـ«نادي باريس»)، في ما يمثّل خطوة ضرورية على طريق تلبية شروط «صندوق النقد الدولي» - الذي شجّع الدول المقرِضة لغانا على التحرّك العاجل لتقديم تطمينات بالتمويل - حتى يصادق مجلس إدارة الصندوق على قرض بقيمة 3 مليارات دولار لأكرا «لاستعادة الاستقرار الاقتصادي» بها. ويتعمّق هذا التصوّر في حالة تنزانيا أيضاً؛ فالصين راكمت، في العقد الأخير، استثمارات مباشرة وصلت إلى 1.8 مليار دولار في عام 2022، وتكتسب هذه الاستثمارات (عبر نحو ألفَي مشروع صيني مسجَّل) أهمية كبيرة ومتزايدة للاقتصاد التنزاني. كما زاد حجم التجارة بين بكين ودار السلام في العام المذكور نفسه - في مؤشّر إلى العلاقات الإيجابية بينهما - بنسبة 23.75% مقارنة بعام 2021، ووصل إلى 8.31 مليارات دولار، فيما عزّزت العلاقات بين البلدَين قطاع الزراعة (المسؤول عن نحو 30% من الاقتصاد التنزاني) بشكل رئيسيّ.

ملاحقة التوغّل الروسي
يمكن ملاحظة أن الوجود الأمني الروسي في القارّة ظَلّ عند مستويات «مقبولة» أميركياً قبل اندلاع الأزمة في أوكرانيا، كما هي الحال في مناطق مثل شمال موزمبيق (لحماية منشآت بترولية تابعة لشركات متعدّدة الجنسيات)، وفي ليبيا. لكن جولة هاريس تكشف عن حساسيّة أميركية متزايدة تجاه التمدّد الروسي. فقد شهدت غانا تفاعلات مهمّة في ملفّ الأمن في غرب أفريقيا، ولا سيما مع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، كان أحدثها في 8 آذار الجاري باتفاق أكرا وبروكسل على تعزيز التعاون في مجال الأمن الإقليمي (ضمن مجالات أخرى)، وفق مخرجات «الحوار السياسي بين غانا والاتحاد الأوروبي» المنعقد في أكرا، والتزام التكتّل بتعميق دعم الأخيرة في جهودها في حفظ السلم والأمن في الإقليم. كذلك، دفعت واشنطن بقوّة في هذا الاتّجاه، وأعلنت هاريس، خلال زيارتها، تقديم مساعدات أمنية (غير منفصلة عن مبلغ الـ 139 مليون دولار السابق) تُوجَّه لمنع الصراع في إقليم الساحل والمساعدة في منع تهديدات التطرّف العنيف وعدم الاستقرار في الإقليم، وهي خطوة تتّفق مع الخطّة الاستراتيجية لغرب أفريقيا الساحلية، والتي أعلنها جو بايدن منتصف آذار الجاري، كجزء من «استراتيجية الولايات المتحدة لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار» (USSPCPS). ويُفهم من التوجّه الأميركي حرْص بالغ على الحيلولة دون مزيد من التمدّد الروسي في إقليم الساحل وغرب أفريقيا أو التمترس في غانا.

واشنطن تواجه براغماتية أفريقية؟
وظّفت كامالا هاريس خطاباً «عاطفياً» بشكل خاص خلال زيارتها لغانا، إحدى الدول الأفريقية التي عانت من الاستغلال الاقتصادي المفرط المتمثّل في تجارة العبيد في قرون سابقة، وروّجت لمسألة عودة آلاف الأميركيين من أصول أفريقية إلى غانا ودول أفريقية عدّة لمساعدة بلادهم في إنجاز مستقبلها، الذي أبدت بدورها حماستها له. وفي مقابل هذه «الحماسة» الأميركية غير المألوفة، حتى في معقلَين من أهمّ معاقل النفوذ الأميركي التقليدي في القارة، غانا وتنزانيا، فإن المشكلات الاقتصادية المعقّدة التي تعانيها الدول التي زارتها هاريس، فرضت سلوكيات براغماتية واضحة على حكوماتها، مع استبعاد فكرة ممارسة الدول الكبرى سياسات تَفرض عليها خيارات «صفرية». وربّما يمثّل التحوّل الأفريقي (في خضمّ التنافس والاستقطاب الدوليَّيْن راهناً) استجابةً مثلى لعقود من سياسات الإملاءات الأميركية، وفرصة تاريخية لهذه الدول لإرساء «قواعد عمل» جديدة نسبياً في مواجهة جهود واشنطن لاستعادة النفوذ في القارة، عبر تقديم حُزم مساعدات «غير مؤكدة» يبدو أنها - عند مقارنتها بالمسار الصيني - الأفريقي الشهر الجاري، في الدول الثلاث التي توقّفت فيها هاريس -، عُدَّت على عجل لتكسب جولة نائبة الرئيس الأميركي جدوى ما. ويظلّ رهان الولايات المتحدة الأكبر - على ما يبدو - في استكمال «استراتيجيتها الأفريقية»، قائماً على جولة الرئيس جو بايدن التي وردت تقارير عنها في الأسابيع الأخيرة.