جُلّ الأسئلة «الكبرى» التي بدأت تُطرح على نطاق واسع، في عام 2016، إبّان عهد إدارة باراك أوباما، حول «المأزق» الذي تسير نحوه العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، أو الذي هي في خضمّه، إمّا أنه جرى تجاهلها بسبب ما اعتُبر في ذلك الحين «تضخيماً متعمّداً» لا يُفسد «الصُّحبة» المستديمة، أو بداعي «غياب الكيمياء» بين زعيمَي البلدَين، أوباما ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وخلافاتهما التي ستتلاشى مع تسلُّم إدارة دونالد ترامب، السلطة، واشتغالها على مسايرة الحليف الإسرائيلي، كما لم تفعل إدارةٌ من قَبلها. ومع طيّ أحد فصولها، عادت الأزمة لتتولّد، ولكن هذه المرّة بصورة غير معهودة، مع خروج الانتقادات الأميركية لإسرائيل إلى دائرة العلن، واستتباعاً انزعاج الأخيرة من المساس بـ«سيادتها»، ومحاولتها إفهام الأميركيين أن «إسرائيل دولة مستقلّة، وليست نجمة أخرى في علم أميركا»، كما عبّر وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير.«يحبّ الإسرائيليون أن يذكّروا أصدقاءهم الأميركيين بأن التاريخ في الشرق الأوسط يُقاس بآلاف السنين والقرون والعقود، وليس فقط بالسنوات والأشهر. وفقاً لهذا المعيار، فإن التحالف الأميركي - الإسرائيلي لا يعدو كونه صورة خاطفة. واعتباره أمراً مسلَّماً به، مع تجاهل بعض الاتّجاهات المشؤومة، سيسمح له بالتلاشي». في نظر دوف واكسمان، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية والدراسات الإسرائيلية في جامعة «نورث إيسترن»، الذي أورد ما تقدَّم في كتابه الصادر في عام 2016، بعنوان «مأزق في القبيلة: نزاع اليهود الأميركيين حول إسرائيل»: «ولّى زمن الدعم المطلق لإسرائيل». يرتكز بحث واكسمان على طبيعة موقف اليهود الأميركيين المنقسمين في ما بينهم حيال دعم إسرائيل، والذي «لم يَعُد من المسلّمات». وتساهم الاتجاهات الديموغرافية والسياسية والثقافية في كلّ من واشنطن وتل أبيب، في تغيير هذه العلاقة، كما يرد في كتاب دانا ألين وستيفن سيمون، «طرقنا المنفصلة: الكفاح من أجل مستقبل التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل»، الصادر في الفترة نفسها. حذّر الباحثان، في ذلك الوقت، من أن «التوتّرات بين أوباما ونتنياهو، ليست سوى أعراض لمشاكل أساسيّة أكثر خطورة، تُنذر بأزمة حقيقية في المستقبل»، وتطرّقا خصوصاً إلى تطوّر الموقف الأميركي من إسرائيل، والتحوّلات التي «تثير القلق». على الجانب الإسرائيلي، يعبّر عن هذا القلق تزايُد أعداد مَن هم على الضفّة اليمينية والدينية، فضلاً عن «اتّباع الحكومة الحلول الأمنية وغير الديموقراطية»، وهي تطوّرات يمكن، بحسبهما، أن «تدفع إسرائيل، ثقافياً واستراتيجياً، بعيداً عن الولايات المتحدة». وكما تبيّنه الأرقام، يتزايد عدد المتديّنين الإسرائيليين، «الحريديم»، بوتيرة أسرع من أيّ شريحة مجتمعيّة أخرى، إذ من المتوقّع أن يرتفع من 11% في عام 2016، إلى ما يقرب من 20% بحلول عام 2030. وفي الموازاة، تزدهر أعداد المستوطنين الإسرائيليين، بعدما زاد عدد الذين يعيشون في المستوطنات، بين عامَي 1991 و2012، بنسبة 240%، أسرع بأربعة أضعاف من النموّ الإجمالي لمجموع الإسرائيليين. على أن الاتجاهات في الولايات المتحدة مقلقة بنفس القدْر، وفق ألين وسيمون؛ فاحتضان إسرائيل بين الليبراليين الأميركيين بدأ يتلاشى بعد «أربعة أجيال من التزاوج المختلط، والذي أضعف كلّاً من الهويّة اليهودية، والتعلّق العميق الذي شعر به الكثير من اليهود تجاه إسرائيل منذ إنشائها». لم يَعُد الأميركيون الأصغر سناً، وبالأخصّ الديموقراطيون الليبراليون بينهم، يدعمون السياسات الإسرائيلية، كما كانت عليه الحال في ما مضى. لكن، ولبعض الوقت، وازن «خيبة الأمل الليبرالية»، واقعُ أن إسرائيل تُعدّ «أصلاً استراتيجيّاً»، وخاصّة بين نُخب اليمين الأميركي. ويخلص الباحثان إلى القول إنه إذا لم يتمّ تدارك العلاقة، فسينتهي الأمر بإسرائيل والولايات المتحدة بوصفهما «زوجين مختلّين في زواج بلا حبّ».
مثّلت الفترة الممتدّة بين عامَي 1967 و1977 «العصر الذهبي» بالنسبة إلى دعم اليهود الأميركيين لإسرائيل


مثّلت الفترة الممتدّة بين عامَي 1967 و1977 «العصر الذهبي» بالنسبة إلى دعم اليهود الأميركيين لإسرائيل، وفق ما يتتبّع واكسمان تطوّر هذه العلاقة. وهو الوقت الذي نَظر فيه هذا الطيف الكبير إلى الدولة العبرية، على حدّ تعبير المؤرّخ ستيفن روزنتال، على أنها «موضوع تبجيل علماني». ومنذ ذلك الحين، وخصوصاً على امتداد العقدَين الماضيَين، أدّت التغييرات السياسية والثقافية في كلّ من إسرائيل والولايات المتحدة إلى تقسيم اليهود الأميركيين، ليصبح دعْم إسرائيل، الذي كان يوماً ما مصدراً للوحدة في المجتمع، محرّكاً للخلاف. على أنه لا ينبغي المبالغة في التمنّي، ولا سيما أن «إيباك» لا يزال، إلى حدٍّ بعيد، اللوبي الأكبر والأكثر تأثيراً في الولايات المتحدة ولدى اليهود الأميركيين.
الحديث عن أزمة في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، وعلى قدْر ما يحمل من تمنّيات، لم يَعد منذ وقت ليس بقليل، مستغرَباً، وليس مرتبطاً، بحال من الأحوال، فقط، بمأزق التشريعات الحكومية الأخيرة، والتي جرى تجميدها مؤقّتاً لتسكيت المخاوف المُعبَّر عنها في الداخل الإسرائيلي، كما في الخارج. ومن سمات اجتماع الحليفتَين أنه «لا توجد أُمّة مثلنا، باستثناء إسرائيل»، والمقصود بقول الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغان، هذا، أنهما تتشابهان إلى حدّ الالتحام. لكن ما ظُنَّ أنه «حبٌ مطلق» لا يتبدّل بتبدُّل الظروف، لم يَعُد كذلك. ففكرة أن «إسرائيل بحاجة إلى مساعدة أميركية لتأمين وجودها، وأن البلدين يشتركان في مجموعة من المبادئ الديموقراطية لم يَعُد منطقيّاً»، على حدّ تعبير ستيفن كوك في مجلّة «فورين بوليسي». وفي سياق ما حُكي عن ضرورة إصلاح العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، يرى روبرت بلاكويل المسؤول الكبير السابق في إدارة بوش، وفيليب غوردن، الذي عمل في إدارة أوباما، أن العلاقات في خطر، بسبب جملة عوامل؛ من بينها التحوّلات المهمّة في السياسات في شأن قضايا الشرق الأوسط، وكذلك التغيُّر الديموغرافي، وتغيُّر السياسات داخل الولايات المتحدة وإسرائيل على السواء، ما أدّى إلى تباعد الدولتَين. ويدعو المسؤولان السابقان، في هذا الإطار، إلى بذْل «جهد مدروس ومتواصل يقوم به صانعو السياسات وقادة الرأي في البلدَين» لإصلاح العلاقات وتجنّب الانقسامات التي «لا ينبغي أن يريدها أحد يهتمّ بأمن إسرائيل أو يقيّم أميركا ومصالحها في الشرق الأوسط». ويرى الباحثان أنه «لأسباب استراتيجية، وتاريخية، وأخلاقية يتعيّن على الحكومتَين بذْل كلّ ما في وسعهما لإعادة صياغة وإحياء الشراكة الاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية». وفي هذا الجانب أيضاً، يحثّ نمرود غورين، ويوناتان توفال، في «معهد الشرق الأوسط»، إدارة بايدن، على «إنشاء رابط مباشر بين ديموقراطية إسرائيل والعلاقة الخاصة بين الجانبَين»، إذ لا تكفي الإشارة، كما ورد في اتصال بايدن - نتنياهو، إلى أن «القيم الديموقراطية كانت دائماً، ويجب أن تظلّ، سِمة مميِّزة للعلاقة بين واشنطن وتل أبيب». ولا يقلّ أهميّة عن ذلك، وفق الكاتبين، التأكيد أن «العلاقة ستعاني في غياب تلك القيم الديموقراطية. ولهذه الغاية، يجب أن تُحدَّد الخطوط الحمر المتعلّقة بالرفاهية الديموقراطية لإسرائيل، وأن توضّح العواقب المترتّبة على تجاوزها. وغنيّ عن القول، يجب أن تكون واشنطن مستعدّة لتنفيذ العواقب في كلّ مرّة يتمّ فيها تجاوُز خطّ أحمر». وفي غضون ذلك، «يجب على الإدارة أن تواصل تأجيل دعوة نتنياهو إلى البيت الأبيض»، وأن «تعلن أنها لن تجري أيّ أعمال مع أعضاء الحكومة اليمينية المتطرّفة»، وأن «تضع أيضاً قيوداً على التمويل الأميركي العام والخاص للمنظّمات الإسرائيلية التي تعزّز أجندات التفوّق اليهودي والعنصرية والفاشية، وتصنّف أولئك الذين يتبنّون العنف على أنهم منظّمات إرهابية».
هل العلاقة الأميركية الإسرائيلية في مأزق حقيقي، أم أنّ ما يجري ليس إلّا جولة أخرى من نزاع عائلي طويل الأمد؟ توضّح عاماً بعد آخر، أن الظروف التي حافظت على العلاقات في الماضي، تتغيّر، على رغم أن الجانبَين لا يزالان يشتركان في تحالف يصعب فكّ أحجيته.