غضب أكثريّة الفرنسيين لا يتعلّق حصراً بمسألة معاشات التقاعد واحتقار ماكرون للديموقراطية
وبينما تخطّط النقابات ليوم احتجاجي كبير اليوم، يبدو الرئيس أكثر شراسة في تمسّكه بالقانون الجديد؛ إذ شَبّه تظاهرات العمّال التي عمّت البلاد بحادثتَي اقتحام مقرّات الكونغرس في كلّ من الولايات المتحدة والبرازيل، وتقصّد في تصريحاته تجاهُل مطالب المعارضة، سواءً لناحية طرْح القانون موضع الخلاف على الاستفتاء الشعبي العام، أو لناحية الدعوة إلى انتخابات عامّة مبكرة، داعياً النقابات إلى الانخراط في حوار حول قضايا أخرى غير مسألة التقاعد. ويرى مراقبون أن ساكن قصر الإليزيه غير مستعدّ لتقديم تنازلات في هذه المرحلة، وأنه سيُراهن تالياً على الانتظار وتزجية الوقت ولو لعدّة أسابيع قادمة، إلى أن تفقد الاحتجاجات زخمها وتتلاشى تدريجيّاً. ويبدو هذا السيناريو مرجَّحاً بالفعل، أقلّه من وجهة نظر فريق ماكرون، في ظلّ حقيقة انقسام المعارضة السياسية بين جناحَي اليمين المتطرّف واليسار، وتفتّت اليسار نفسه، وبالتالي العجز شبه الكليّ عن تحدّي «الديكتاتور» في قاعة البرلمان، وكذلك ميل النقابات التقليدي إلى القبول بحلول وسط - كان أحد زعمائها قد اقترح للتوّ على الرئيس تجميد تطبيق قانونه ستّة أشهر لإتاحة الفرصة أمام الحوار، لكن دعوته تلك قوبلت بالتجاهل -. والظاهر أيضاً أن جزءاً ممّا يدور في ذهن ماكرون، ويدفعه إلى العناد - فضلاً عن شخصيّته المتعجرفة - مرتبط بحجم الدَين العام الثقيل لفرنسا، والضغوط التي يتعرّض لها من بيروقراطية المفوضيّة الأوروبية في بروكسل لإعادة أرقام الميزانية العامّة إلى الحدود الدنيا المسموح بها في الاتحاد الأوروبي. لكن حتى لو انتصر ماكرون في معركة فرْض قانون التقاعد الذي كان دائماً على رأس أجندته منذ ولايته الأولى، فإن معاركه التشريعية التالية ستكون شاقّة للغاية، وستتحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات، واستعراضات شعبوية للطامحين إلى الحصول على مقاعد في انتخابات 2027، لا سيّما وأن حزب الرئيس لا يتمتّع بأغلبية كافية لتمرير القوانين في الجمعية الوطنية، فيما حلفاؤه في الحزب الجمهوري - يمين وسط - أثبتوا أنهم منقسمون، ولا يمكن الاعتماد عليهم لحظة الحقيقة.
السيناريو النقيض، والأقلّ احتمالاً، يرتبط بقدرة الفرنسيين كأكثرية على دفْع تمثيلاتهم أحزاباً ونقابات وتجمّعات مدنيّة إلى الاستمرار في تنظيم الاحتجاجات وتصعيدها، إلى درجة إرهاق الاقتصاد والدولة الفرنسية معاً، وحمْل الرؤوس الحامية من البرجوازية الثرية ونُخبة الحُكم الباريسية على الضغط على الرئيس للتفاوض وقبول تنازلات مِن مِثل سحْب القانون أو تعطيله أو تعديله، وصولاً إلى استقالة الحكومة، والدعوة إلى انتخابات عامّة مبكرة، وحتى في الظروف القصوى، تنازُل الرئيس عن منصبه. ويشمل هذا السيناريو اقتراباً من الخطوط الأميركية الحمراء التي تفضّل وجود ماكرون في قلب أوروبا على غيره من السياسيين الفرنسيين المزعجين، بالنظر إلى تساوقه مع أجندة واشنطن، سواءً بشأن الحرب مع روسيا في أوكرانيا، أو عبر الحفاظ على وحدة الأوروبيين وراء «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، ما يضعف في المحصّلة إمكانية حصول تغيير متطرّف.
لكن مهما كانت نتيجة هذه المواجهة، فإن الأكيد أن غضب أكثريّة الفرنسيين لا يتعلّق حصراً بمسألة معاشات التقاعد واحتقار ماكرون للديموقراطية، بقدر ما هو تعبير عن شعور بالقلق العميق من واقع تبخُّر دولة الرفاه الفرنسية تدريجيّاً أمام عيونهم، وتحميلهم الرئاسة - ذات الصلاحيات القويّة - ذنب حدوث ذلك عبر تبنّي الرؤساء المتعاقبين أجندات نيوليبرالية تتوافق مع هوى بروكسل وواشنطن، من دون وجود طرق ديموقراطية فاعلة لكبحهم. وعليه، لا يمكن أن يتحقّق الاستقرار السياسي لفرنسا على المديَين المتوسّط والطويل، في ظلّ استمرار النهج «الديغولي» في الحُكم - أو ما يسمّى بالجمهورية الخامسة -، حيث الرئاسة المتفلّتة من سلطة البرلمان، والتي رضخ لها الفرنسيون، مسلّمين جزءاً كبيراً من دخْلهم للدولة، في مقابل التعليم المجّاني والرعاية الصحّية والمعاشات التقاعدية وإعانات البطالة وحتى العطلات المدعومة. إلّا أنه مع توسُّع فجوة الأجور بين الطبقات العليا والدنيا، وعبء المديونية العام الذي يفوق الدخل السنوي للبلاد، وفقدان الاقتصاد الفرنسي التنافسية، وأيضاً الضغوط التضخّمية الهائلة التي تسبّبت بها أزمة «كورونا»، وتالياً الحرب الاقتصادية الغربية ضدّ روسيا - والتي شارك ماكرون بفاعليّة في قيادتها -، كلّها جعلت من المتعذّر على الدولة الاستمرار في تمويل نموذج الرفاه الفرنسي هذا، فيما لم يستطع الرئيس، الذي يلعب دور نابليون جديد، تجميل صورة هذه التحوّلات أمام المواطنين. ولذلك، فإن النُخبة الفرنسية الحاكمة ستكون مضطرّة سواءً الآن، أو بعد قليل، إلى تدشين جمهورية سادسة، أقلّ استبداداً، تنتقل فيها السلطة الحاسمة إلى الجمعيّة الوطنية دون الرئيس، بحيث تأتي «الأخبار السيّئة» من المؤسّسات ممهورةً بتواقيع ممثّلي الشعب، بدلاً من مكتب الرئيس. وبخلاف ما تَقدّم، سيظلّ الصراع سيّد الموقف في فرنسا خلال العقود القادمة، بغضّ النظر عن اسم شاغل الإليزيه.