لندن | للمرّة الأولى منذ خمس سنوات، التأمت، في باريس، أمس، قمّة أنجلو-فرنسية، جمعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، وتصدّرت قضيّة القوارب الصغيرة التي تهرّب المهاجرين من الشواطئ الفرنسية إلى المملكة المتحدة، جدول أعمالها، فضلاً عن مسائل الدفاع، والتصنيع الحربي، وتنسيق المواقف في شأن دعم أوكرانيا، كما أمن الطاقة. على أن القيمة الرمزية للقمّة بدت أهم بكثير من نتائجها العملية، كوْنها كسرت سنوات من غياب الثقة المتبادلة، والخلافات العلنية بين الطرفَين، ومَنحت الزعيمَين اللذَين يواجهان اضطرابات اجتماعية وإضرابات عمّالية متصاعدة في بلادهما، فرصة لتسجيل نقاط على مستوى السياسة الخارجية
التقى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في باريس، يوم أمس، رئيسَ الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، في أوّل قمّة تُعقَد على مستوى القادة الأنجلو-فرنسيين منذ خمس سنوات. وشكّلت مسألة تدفُّق المهاجرين في القوارب الصغيرة من فرنسا إلى بريطانيا عبر بحر المانش الفاصل بين البلدَين، أهمّ بند على جدول أعمال القمّة. لكن مطّلعين على أجواء اللقاء قالوا إن الجانبين استعرضا جوانب أخرى ذات اهتمام مشترك، ولا سيما قضايا الدفاع، والتصنيع الحربي، وتنسيق المواقف في شأن دعْم أوكرانيا في مواجهتها مع روسيا، بالإضافة إلى أمن الطاقة وتراخيص الصيد. وفيما بدت صحف لندن - اليمينية التوجّهات - متفائلة إزاء القمّة باعتبارها خطوة في اتجاه تطبيع العلاقات بين البلدَين بعد نصف عقد من الجفاء رافق مرحلة تخلّي بريطانيا عن عضويّتها في الاتحاد الأوروبي، قلّل مسؤولون فرنسيون من شأن التوقّعات بنتائج فاصلة، لكنهم اعتبروا أن القمّة ستسمح لماكرون وسوناك بتطوير علاقة عمل أفضل خلال الفترة المقبلة.
وكانت العلاقات الأنجلو-فرنسية قد عانت من خلافات ناجمة جزئياً عن فقدان باريس الثقة برئيس الوزراء الأسبق، بوريس جونسون، الذي بنى داخل الإدارة البريطانية تصوّراً بأن ماكرون يريد معاقبة المملكة المتحدة على خروجها من الاتحاد الأوروبي، لتكون عبرة للأعضاء الآخرين. وتراجع جونسون عن وعود قطعها للأوروبيين بموجب معاهدة الخروج من الاتحاد الأوروبي، «بريكست»، ولا سيما في ما يتعلق بحدود إيرلندا الشمالية؛ ثمّ أبطأ منْح تراخيص الصيد للقوارب الفرنسية. وتُوّج التوتّر بتوقيع بريطانيا والولايات المتحدة اتفاقاً أمنيّاً مع أستراليا أدّى إلى إلغاء الأخيرة عقداً مع فرنسا بقيمة 36 مليار يورو لتوريد غواصات نووية إلى حكومة كانبيرا. وتالياً، فشلت ليز تراس، خليفة جونسون، في استعادة المزاج الإيجابي للعلاقة مع باريس، بعدما اعتَبرت علناً أن «هيئة المحلّفين قد حَسمت موقفها» في شأن ما إذا كان إيمانويل ماكرون صديقاً أو عدواً للمملكة المتحدة. لكنّ ضغوطاً أميركية لتوحيد صفوف الحلفاء الغربيين في المواجهة مع روسيا سمحت للرئيسة التي لم تعمّر طويلاً في المنصب، بحضور الاجتماع الأول للمجموعة السياسية الأوروبية على مستوى القارة في ضيافة الرئيس الفرنسي.
ويقول خبراء إن سوناك الذي تعاني حكومته - وفق الاستطلاعات - من تقلّص التأييد الشعبي، وانعدام فرص التجديد لـ«حزب المحافظين» الحاكم في الانتخابات المقبلة (كانون الثاني 2024)، كما المؤامرات في كواليس السلطة، ناهيك عن سلسلة من الأزمات الاقتصاديّة والإضرابات العمّالية المستمرّة، قد اختار في ما يبدو كسْب النقاط في ملعب السياسة الخارجية من خلال تبنّي سياسة تصالحيّة مع الفرقاء على البرّ الأوروبي. وخالف سوناك توجّه سلفَيْه (جونسون وتراس) وصقور الانعزالية في حزبه في سعيهم إلى التصعيد في شأن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي حول مسألة الحدود في إيرلندا الشمالية، وتوصّل مع بروكسل إلى توافق وسطي منع نشوب حرب تجارية بين الطرفَين. ويدرك سوناك أن دور لندن على الساحة الأوروبية كوكيل للأميركيين داخل الاتحاد الأوروبي قد انتهى عمليّاً مع «بريكست»، وأن واشنطن تفضّل الآن، ولأسباب موضوعيّة بحت، الاعتماد على باريس لضبط إيقاع (الموسيقى) في أوروبا، ولا سيما أن الأخيرة أبدت مرونة جليّة في إدارة عمليّات دعم الجيش الأوكراني دون كثير من الصخب، واستعداداً دائماً لتمثيل مصالح الولايات المتحدة، سواء في شؤون الدفاع عن أوروبا، أو حتى في إبقاء خطّ تواصل مفتوح مع موسكو. ولذلك، فإن مناخاً من العداء مع الفرنسيين سيكرّس بالضرورة من تراجع مكانة بريطانيا وعزلتها أوروبيّاً، بينما يكاد ذلك لا يزعج ماكرون كثيراً.
انعقدت القمّة بين الزعيمَين فيما يواجهان موجة متّسعة من الإضرابات العماليّة في بلديْهما


ويزعم أشخاص على صلة بالقمّة أن ثمّة كيمياء إيجابية ملحوظة بين الزعيمَين ماكرون وسوناك، قد تسمح بتسريع تطوير العلاقات بين البلدين. فهما متقاربان في العمر، وخلفيتهما في العمل المصرفيّ تمنحهما لغة مشتركة، وكلاهما ضعيف داخلياً وبحاجة إلى تحقيق إنجازات خارجية للتعويض، وبرامجهما السياسية المتناغمة مع التوجهات الأميركية تفرض عليهما حدّاً أدنى من التفاهم، كما أن فرص التعاون الاقتصادي الممكن عبر عدّة قطاعات استراتيجية تبدو واعدة بالفعل وقد تساعد الطرفَين على مواجهة الانعكاسات السلبيّة للحرب الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة ويشارك فيها البلدان ضدّ روسيا. ومن جهته، يريد سوناك الحصول على مساعدة من ماكرون للتعامل مع القوارب الصغيرة التي حملت، العام الماضي، رقماً قياسياً بلغ 46 ألف مهاجر إلى شواطئ المملكة المتحدة (بزيادة 60% عن العام الذي سبقه) انطلقوا غالباً من نقاط على الشواطئ الفرنسيّة. وعلى رغم أن تلك الأعداد تبقى قليلة بالمقارنة مع أعداد المهاجرين الذين يستهدفون دول أوروبا الكبرى، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، إلّا أن مسألة الهجرة تحتلّ مكانة بارزة على أولويات الحكومة البريطانية ذات التوجهات اليمينية، وتوظّف دائماً لحشد تأييد الأغلبيّة البيضاء وراء سياساتها. وكشف «10 داونينغ ستريت» (مقر رئاسة الوزراء في لندن)، هذا الأسبوع، عن مشروع قانون - يتعارض مع الاتفاقات الدولية - لمنْع الأشخاص الذين يدخلون المملكة المتحدة بشكل غير قانوني من حقّ طلب اللجوء. وقد اتّفق الزعيمان، في قمّتهما التي حضرها وزراء من البلدَين، على «تعميق التعاون»، فيما بقي ماكرون على موقفه، معتبراً أن «اتفاقاً لإعادة المهاجرين من حيث أتوا» والذي تسعى المملكة المتحدة إلى توقيعه مع الجار الفرنسيّ، ينبغي أن يتم التفاوض عليه مع الاتحاد الأوروبي ككلّ. كذلك، يراهن الجانب البريطاني على الاستفادة من الزخم الذي وفّرته القمّة لضخّ طاقة جديدة في معاهدات «لانكستر هاوس» لعام 2010، والتي جعلت فرنسا أقرب حليف أوروبي لبريطانيا، وتضمّنت إطاراً لإنشاء قوّة تدخّل سريع مشتركة تضمّ 10 آلاف جندي، لكنّها أُهملت تماماً مع انطلاق قطار «بريكست». وتمتلك باريس ولندن أكبر جيشَين في أوروبا، وكلاهما يمتلك أسلحة نووية. ولا شكّ في أن فرنسا هي المدخل الأنسب لإيجاد طرق لربط المملكة المتحدة بمبادرات الدفاع والتصنيع الحربي في الاتحاد الأوروبي.
وانعقدت القمّة بين الزعيمَين فيما يواجهان موجة متّسعة من الإضرابات العماليّة في بلديهما. وإذا كانت الأمور في إنكلترا لا تتعدّى الإضرابات الجزئية والقطاعية من دون حراك في الشارع، فإنها على البرّ الفرنسي مرشّحة لمزيد من التصعيد، وسط تعهُّد النقابات العمّالية الرئيسة بشلّ البلاد، في محاولة لإجبار ماكرون على التخلّي عن مشروع قانون لزيادة سنّ التقاعد. وقالت بعض النقابات التي تمثّل عمّال النقل العام وسائقي الشاحنات وفنيّي المحطّات النووية، إنها ستنظّم إضرابات متدحرجة ومتتالية، في تصعيد لتكتيك الإضرابات الجزئيّة والمسيرات الأسبوعية المستمرة منذ كانون الثاني الماضي. ونقلت الصحف عن فيليب مارتينيز، أحد النقابيين البارزين، قوله إن «التعبئة ستستمرّ والإضرابات ذاهبة إلى مستوى أعلى، إلى أن تستمع الحكومة إلى ما يقوله العمّال».
وفيما كانت التحضيرات في الإليزيه جارية لاستقبال رئيس الوزراء البريطاني، للبحث في طرق أفضل للتعاون ضدّ اللاجئين وشنّ الحروب، كان ما يقرب من ثلثَي معلّمي المدارس الابتدائية في البلاد (الثلاثاء) مضربين، كما ربع موظّفي الخدمة المدنية، وأَلغت السكك الحديدية الوطنية الفرنسية ثلاثة أرباع برامج القطارات، في حين تخلّت شركات الطيران المحلّية عن نحو ثلث رحلاتها المقرَّرة، وتوقّفت إمدادات الوقود من محطّات التكرير. وبحلول بعد الظهر، خفّض عمال قطاع الطاقة الإنتاج في المفاعلات النووية إمدادات الكهرباء بما يقرب من خُمس الاستهلاك اليومي المعتاد، ما دفع السلطات إلى استيراد الكهرباء من جيرانها بأسعار عالية. وقد شارك ما يقرب من مليون ونصف مليون فرنسي في مسيرات احتجاجية شهدتها المدن الكبرى، فيما حاصر الطلاب مدارسهم وبعض الكليّات الجامعية ومنعوا انعقاد الدروس. ومن جهته، كان ماكرون تعهّد لداعميه من أصحاب رؤوس الأموال بترشيد نظام التقاعد في البلاد، أحد محاور برنامجه الاقتصادي منذ دورة رئاسته الأولى، لكنّه تخلّى عن محاولة أولى - أكثر طموحاً من الحالية - في عام 2019، بعدما تزامنت حينها مع جائحة «كوفيد-19». أمّا مشروعه الحالي، فمن شأنه أن يرفع الحدّ الأدنى لسنّ التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، ويتطلّب 43 عاماً من العمل للحصول على معاش تقاعدي كامل. ومع أن إمكانيّة تمرير القانون في الجمعية الوطنية (البرلمان) قائمة بالفعل من خلال دعم كتلة اليمين الجمهوري المحافظ لكتلة الرئيس ماكرون، إلّا أن معارضة ثلاثة أرباع الفرنسيين له، وقيام النقابات بأكبر احتجاجات لها منذ عقود، يهدّدان البلاد بأزمة سياسية لا يبدو أيّ من الطرفَين مستعداً حتى الآن لتقديم تنازلات لتجنُّبها. ولذلك، فإن قمّة مفعمة بالوعود والابتسامات مع الجار البريطاني تُظهر الرئيس متماسكاً وفاعلاً تَخدم بشكل أو بآخر، تدعيم موقفه خلال شهر سيكون حاسماً لمجمل إرثه السياسي.