ولعلّ ما يفاقم حراجة الموقف الإسرائيلي، أن «الوضع الحالي ينطوي على تحدّيات ومخاطر أشدّ من تلك التي عرفتْها إسرائيل في العقود الأخيرة»، وفق ما يحذّر منه الرئيس الحالي لشعبة التخطيط في الجيش الإسرائيلي، اللواء يعقوب بنغو. ويتحدّث بنغو، في دراسة نشرتْها مجلّة الجيش، «معرخوت»، في الشهر الأوّل من العام الجاري، عن «تآكل عميق في الامتيازات التي كانت تتمتّع بها إسرائيل، سواءً في المسارات الإقليمية أو الدولية أو الداخلية»، منبّهاً إلى أن «نضوج هذه الاتّجاهات الثلاثة وتفاعلها في ما بينها يولّد المشكلة الاستراتيجية المحدّثة» بالنسبة إلى الكيان، موضحاً أن «الدمج بين التهديد الخارجي والخطير والمتواصل من قِبَل "إيران الكبرى"، التي تشكّل دولة عظمى وقوّة إقليمية تتمتّع بتصميم ودعم روسي، وبين التآكل الداخلي وتراجُع القوّة والدعم الأميركيَين»، سيكلّف إسرائيل أثماناً كبيرة، ويضعها أمام تحدّيات لقدرتها على التحمّل والاستقرار الاستراتيجي. ويُضاف إلى ما تَقدّم، أن «التعاظم الهامّ للقدرات العسكرية الإسرائيلية لا يُقلّص بشكل بارز حجم الخطر الإيراني، بقدْر ما يشكّل وزناً مضادّاً له»، بحسب بنغو، الذي يضيف أيضاً، أن «الجدوى العسكرية للشراكة الإقليمية في هذه المرحلة لا تزال في حيّز الإمكان فقط». وفي ضوء ذلك، يشدّد المسؤول الإسرائيلي على ضرورة «بناء القوّة، وتسخير شركاء، وتحديد سياسات وتنفيذها»، داعياً المؤسّسات ذات الصلة إلى «اتّخاذ قرارات لإعداد إسرائيل وجيشها من أجل مواجهة اللايقين إزاء البيئة الاستراتيجية التي ستتشكّل».
الواقع الحالي، ببعدَيه الاستراتيجي والعمليّاتي، لم يأتِ من فراغ، بل هو حصيلة معركة استمرّت نحو عقدَين
دعوةٌ تبدو محفَّزة بتشاؤم حيال المستقبل لا يُخفيه بنغو؛ إذ يَلفت إلى أن «تآكُل قوّة الدعم الاستراتيجي (الأميركي) والتضامن القومي والقوّة الداخلية، يجعل من الصعب على إسرائيل التعامل مع قوّة إقليمية تتمتّع بالتصميم، ومع دولة عظمى مثل إيران. ويعني ذلك أن الأخيرة ستشكّل تهديداً عميقاً لمناعة إسرائيل وازدهارها، بل وحتى تهديداً وجودياً في حال تحوّلها إلى دولة نووية، في إشارة إلى إمكانية امتلاكها أسلحة نووية أو القدرة على إنتاجها. وعلى مستوى الأسلحة التقليدية، يشير إلى أن «إيران طوّرت قدرات مستقلّة، كما وحسّنت منظومات صواريخ أرض - أرض، وامتلكت قدرات دفاع جوّي ومنظومة مسيّرات واسعة ومدمّرة، وحوّلت أوكرانيا إلى مختبَر عملياتي، لدراسة قدراتها ومفاهيمها العملياتيّة». ومن هنا، يتعاظم، بشكل كبير، احتمال المواجهة المباشرة، مُجلّياً، بحسب بنغو، «خطأ عدم الاستعداد لإيران بما يتناسب معها، ومع قدرات حلفائها والتعاون المتبادل في ما بينهم»، وبروز مفهوم تعدّد الساحات. وفي هذا المجال، يبيّن رئيس شعبة التخطيط أن التهديد الذي تشكّله طهران يتوزّع على ثلاث طبقات: استراتيجية وجغرافية وعملياتيّة، مشدّداً على ضرورة أن تأخذ تل أبيب في الحسبان، سيناريو معركة متواصلة ومتعدّدة الأبعاد بين إسرائيل وبين «إيران الكبرى»، في السنوات المقبلة.
على أن ما لا يَلفت إليه بنغو، هو أن الواقع الحالي، ببعدَيه الاستراتيجي والعمليّاتي، لم يأتِ من فراغ، بل هو حصيلة معركة استمرّت نحو عقدَين، وأخفقت فيها الاستراتيجية الإسرائيلية (الأميركية) ضدّ إيران في تحقيق أهدافها، وفق ما يقرّ به كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين بشكل مباشر أو غير مباشر، على رغم أن وضع الجمهورية الإسلامية على المستويات كافّة كان آنذاك أشدّ صعوبة وخطورة ممّا هو عليه الآن. إذ استطاعت إيران الصمود في مواجهة تلك الاستراتيجية، فيما انكشف خطأ تقديرات خصومها، وفشَل رهانات كثيرة عَقدوها. وإذا كانت الاتّجاهات المستقبلية بالنسبة إلى إسرائيل، وفق تقديرات مؤسّستها العسكرية، قاتمة، فهي بالتبعية أكثر إيجابيّة بالنسبة لإيران وحلفائها، الأمر الذي يجعل الحديث عن آفاق واعدة تنتظر المحور الذي تقوده الأخيرة، أبعد من تمنّيات، وإنّما خلاصة وقائع تحوّلت إلى مفاهيم وفرضيّات لدى جيش العدو.